بعثه ونشره] ويُؤيد ما قلنا قول زيد بن علي": (أيها الناس إن الله خلقكم ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، جعل موتاً بين حياتين: موتاً بعد حياةٍ، وحياة ليس بعدها موت). وهذا نص فيما ذهبنا إليه، وذلك أن مُقامَ الإنسان في القبر قليلٌ، ولذلك سماه الله زيارةً للقبر فقال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}[التكاثر:1،2]،ومن فنّ الزائر أنه لا يلبث إلا قليلاً، وليس هو كالحالِّ. وقد حكى الله قول أهل النار: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ، يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا ، نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا}[طه:102-104].
ومعنى قوله تعالى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} أي يدخل سواد عيونهم في بياضها.
وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ، وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[الروم:55،56].(1/371)


فصل في الكلام في الصُّوْر
وقد اختُلف في قول الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ }[يس:51]. فقيل: معناه: ونفخ في الصُّوَر. وروي عن ابن عباس أنه قال: الصُّور: قرنٌ ينفخ فيه إسرافيل.
وعندنا أنه صوتٌ يُحدثه الله تعالى يفزع منه من في السماوات والأرض، وقد قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}[الزمر:68]، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا}[طه:108]، وقال تعالى: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ ، خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ، مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ}[القمر:6-8]، وقال تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ، يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ}[ق:41،42]، فصح أنه صوت يسمعه السامعون.(1/372)


فصل في الكلام في الميزان
وقد اختُلف في الميزان فقيل فيه ثلاثة أقوال:
فمن الناس من حمل الآية على ظاهرها؛ أن الأعمال توزن. والآياتُ التي فيها ذكرُ الوزن قول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}[الأنبياء:47]، وقوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102،103]، وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ، فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ، نَارٌ حَامِيَةٌ}[القارعة:6ـ11].(1/373)


وعندنا وعند المعتزلة أن الأعمال لا توزن بالميزان المعقول؛ لأن الأعمال أعراضٌ، والأعراض لا تقوم بأنفسها، ولا يُوزن في الشاهد إلا الأجسام، والميزانُ عندنا هو الحق والقسطُ قال الله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ }[الأعراف:8]، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}[الشورى:17]، وقال تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ، أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}[الرحمن:7-9] فصح أن الميزان هو الحق، والوزنُ هو الحكم بالحقّ، وإنما جعل الله ذكر الميزان مثلاً. فمثّل الحكم بالحق كوزن الأجسام بالميزان المعروف.
واعلم أن معنى هذا المثل: أن من كانت له حسنةٌ وسيئةٌ أن الحسنة في المثل بعشر وزناتٍ بالميزان، والسّيئة بوزنةٍ واحدةٍ؛ فعلى هذا يكون الرُّجحان للعشر، وهذا إذا كان الخاتمة من الأعمال صالحةً.
ويدل على صحة ما ذكرنا قول الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ }[هود:114] وهذا هو المراد بقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا}[الأنعام:160] وليس المراد به أنه إذا أطعم مسكيناً خبزةً أنه يطعم عشر خباز، ولا إذا كسى عارياً مستحقاً ثوباً أنه كسى عشرة ثيابٍ، ولو كان ذلك كذلك لأدّى [ذلك] إلى الإنقطاع والفناء.(1/374)


واعلم أن هذا المثل بالوزن، والميزان يدل على أنه لا يكاد يوجد من الناس من تكون أعماله حسنات كلها ولا سيئة له؛ لأن في الشاهد أنه لا يُجعل في أحد كفتي الميزان شيءٌ والأخرى معطلة لا شيء فيها، ولا يصح الوزن إلا أن يكون في كل واحدةٍ من كفتي الميزان شيءٌ، قليلاً كان أو كثيراً، ولا يعقل وزن شيءٍ إلا بشيءٍ، فثبت أن الإنسان المكلّف لا يخلو من سيئةٍ.
واعلم أن كل عاملٍ مسؤولٌ عن عمله -المطيع والعاصي- ومحاسبٌ على فعله، قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِي‍رًا}[الإنشقاق:7،8] فدلّ على أنه لا بدّ من الحساب والمسألة، قال الله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ }[التكاثر:8]، وقال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ }[الصافات:24]، وهذا السؤال، سؤال تقريرٍ وتوبيخٍ، وقول الله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ }[الرحمن:39] يريد: أنه لا يُسأل سؤال جهلٍ واستفهامٍ، بل سؤال تقرير وتوبيخ، ويُؤيد ذلك قول الله: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا }[النحل:111]، وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ، إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ ، فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ، عَنِ الْمُجْرِمِينَ ، مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ...}الآيات[المدثر:38-43]، وأصحاب اليمين الذين استثناهم الله الأطفال؛ ويدل على ذلك سُؤالهم للمجرمين عمّا أدخلهم النار؛ لأنهم لم يكن معهم(1/375)

75 / 115
ع
En
A+
A-