واعلم أن الأمة لم تختلف في أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، ولم يختلفوا في أن الجنة والنار حقّ، وكذلك أهل الكتابين لم يختلفوا في ذلك. وجحد الكفار البعث والنشور، والحساب، والجنة والنار، إلا فرقة من كفار العرب فإنهم يرون البعث والنشور، وقالوا: من نُحرت على قبره ناقةٌ من ماله أتى يوم القيامة راكباً لها، ومن لم تُنحر على قبره ناقة أتى ماشياً على رجليه، وقال في ذلك خراشة بن الأصم يوصي ابنه:
أبني إما أهلكن فإنني
أوصيك إن أخا الوصاة الأقرب
لا تتركن أباك يعثُرُ خلفهم
تعباً يسير على اليدين وينكبُ
واستبق لِي مما تركتُ مطيّةً
في الناس أركبها إذا قيل اركبوا(1/366)
فأما سائر الكفار من العرب والعجم فإنهم نفوا البعث. وقالوا: كيف يحيا من قد مات ودُفن ثم صار عظاماً ثم تراباً، ونسوا كونهم من ترابٍ، ثم من نطفة، ثم من علقةٍ، ثم من مضغةٍ، ثم خُلَقتِ المضغةُ عظاماً، ثم كُسيت [العظام] لحماً، ثم أنشأها الله خلقاً آخر، ذكراً أو أنثى، ثم أخرجه طفلاً، أولم يعلموا أن الذي خلقه من ترابٍ يُعيده؟ ولو كان قد صار تراباً، وقد ذكر الله قولهم واحتجّ به عليهم فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ، وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ، أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[يس:77-83]، وقال تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ، بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ، قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ، بَلْ كَذَّبُوا(1/367)
بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ، أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ، وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عبد مُنِيبٍ ، وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ، رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ، وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ، وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَالرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ، أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}[ق:1ـ15]، وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيّ يُمْنَى ، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى ، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}[القيامة:36-40]. فهل ترى حجة أفلج من حُجة الله، أو برهاناً أبهر من برهان الله؟!(1/368)
فصل في الكلام فيما اختلفت فيه الأمة من عذاب القبر والنفخ في الصور والميزان والكتاب والصراط والشفاعة وعذاب أطفال المشركين
واعلم أن هذه الجملة قد اختلف فيها. فقال قوم: إن الإنسان يحيا بعد انصراف من يقبره، ويُقعد في قبره، ويُسأل عن فعله ثم يُمات. واستدلوا بما حكاه الله من قول أهل النار: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ}[غافر:11]. وبما روي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام من قوله: (وأُقعِدَ في قبره).(1/369)
وعندنا أنه ليس بين الدنيا والآخرة غير موتةٍ واحدةٍ؛ والدليل على ذلك قول الله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى }[الدخان:56]، وقوله حاكياً قول المتسائلين يوم القيامة: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ، قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنّي كَانَ لِي قَرِينٌ ، يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ، قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ، فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ، قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ، وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ، أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ، إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}[الصافات:50-59]. فصح أنه ليس غيرُ موتةٍ واحدةٍ. ومعنى قول الله فيما حكى من قول أهل النار فيها: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ}: أن مبتدأ خلق الإنسان من المَوات، وهو الطّين والنطفة والمضغة والعلقة، فهو في هذه الحال ميّت، فهذه موتة، والموتة الثانية المشهورة بين الدنيا والآخرة. وأما قول أمير المؤمنين عليه السَّلام: (وأُقعد في قبره) فالمراد به عند بعثه ونشره [والخلاف في إحيائه في القبر وإماتته ميتةً ثانيةً. فأما عذاب القبر للعاصين فنقول به ونُصدّق به، وقد ورد في ذلك أخبارٌ عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يُؤثر في وقته أثرٌ، والله أعلم. ونحسب أنه عند بعثه والله أعلم، والقول عليه عندنا: أنه يُعذّب عند(1/370)