وروي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم من قبلكم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل أهل الكتابين قبلكم كمثل رجل استعمل رجلاً عملاً فقال: من يعمل إلى نصف النهار بقيراطٍ؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل إلى صلاة العصر بقيراطٍ؟ فعملت النصارى على ذلك ثم انتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس بقيراطين، (قال) فغضبت اليهود والنصارى وقالوا: نحن أكثر أعمالاً وأقلُّ عطاءً)).
وقال القاسم بن إبراهيم عليهما السلام في كتاب تثبيت الإمامة: (الحمد لله فاطر السماوات والأرض، مفضل بعض مفطورات خلقه على بعض، بلوى منه تعالى للمفضَّلين بشكره، واختباراً للمفضولين بما أراد في ذلك من أمره، ليزيد الشاكرين في الآخرة بشكرهم من تفضيله، وليُذيق المفضولين بسخطٍ إن كان منهم في ذلك من تنكيله، ابتداءً في ذلك للفاضلين بفضله، وفعلاً فَعَلَهُ في المفضولين عن عَدلِهِ).
ومثل هذا موجود كثير في الكتاب والسنة، وقد جعل الله اختلاف الأشياء، وتفضيل بعضها على بعض من آياته، قال عز من قائلٍ: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[الرعد:4].(1/361)
واعلم أن الزيادة من الله لبعض خلقه لا تُدخل عليه جوراً ولا ظلماً بل قد أعطى كل واحدٍ من المكلفين في الدنيا من الاستطاعة ما يبلغ به مراده في الدنيا والآخرة، وزاد بعض المكلفين ما شاء في الدنيا والآخرة، واقتنع كلٌّ بما أعطاه في آخرته ودنياه.(1/362)
باب حقيقة معرفة الجزاء
اعلم أن الله لما ثبت أنه عدل حكيم عالم، وأنه لم يهمل الخلق، ولا ضيّع التدبير، ورأينا الناس ظالماً ومظلوماً، ولا يكاد يوجد في الناس غيرهما، ولا يوجد أحد من المكلفين إلا مطيعاً أو عاصياً، ورأينا العصاة يظلمون المطيعين ويقتلونهم، ورأينا المُطيعين مقيّدين لألسنتهم وأفواههم وأيديهم وفروجهم مما حرم الله عليهم، ورأينا العاصين مطلقين لما قيّد المطيعون، ورأيناهم في دنياهم أهل نعم وتنعم، وأهل ثروةٍ في المال، وهيبة في الدنيا وجمال، فلما رأينا الظالمين العاصين ماتوا ولم يُنتصر منهم للمظلومين المطيعين، ولا عُوقبوا لهم في الدنيا، ورأينا المطيعين المظلومين ماتوا ولم يَنتَصِروا من الظالمين ولا عوقبوا لهم في الدنيا، علمنا علماً عقلاً ضرورياً أن العدل الحكيم العالم جلّ وعلا لا يترك خلقه مهملاً، ولا يضيع لعامل عملاً، وأنه سيحدث داراً للجزاء يُثيب فيها المطيعين المظلومين، ويعاقب فيها الظالمين العاصين، وأنه لا يُعجزه ذلك كما لم يعجزه خلق الدنيا وما فيها، والجزاء تمام العدل ونظامه، ولولا ذلك لكان خلق الدنيا وما فيها عبثاً -تعالى الله عن ذلك.
ألا ترى أن إنساناً لو بنى داراً وأكملها، فلما تمّت وكملت هدمها لغير معنى، ألا ترى أنه يكون عابثاً؟ فإن هدمها لفساد فيها، أو لأن يعمر خيراً منها أن ذلك يكون منه حسناً، فلو لم تكن دارٌ غير هذه الدار، يُثاب فيها الأبرار، ويعاقب فيها الفجار، لكان ذلك ضد العدل والحكمة، وكان عبثاً -تعالى الله عن ذلك- فصحّ أن الآخرة آتية لا شك فيها ولا ريب، ولا خُلف ولا كذب.(1/363)
واعلم أن للنشور بعد الموت دليلين مبيّنين، وشاهدين في الشاهد مُنيرين وهما: استيقاظ النائم بعد النوم من المنام، وحياة الأرض الميتة بالماء، فإن الإنسان إذا نام يصير مثل الميت لا يعقل ولا يسمع ولا يبصر، ولا يدري ما يفعل به، ولا في أيِّ موضع هو، ولا يبقى فيه من الحياة غير النَّفَسِ، ثم يستيقض فيرجع إليه روحه وعقله وذهنه وسمعه وبصره، وكذلك يبعث الله من يموت، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}[الزمر:42]، فصح أن النوم مثل الموت.(1/364)
وأيضاً فإن الأرض الميتة تنظرها هامدةً لا شجر فيها ولا نبات، فينزل الله عليها الماء، فتنبت به الأشجار والزرع وصنوف الثمار فيحييها الله بعد الموت، وتصير مخضرّة بعد الهلاك والفوت، وقد قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ، فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الروم:48-50]، وقال تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْييِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}[الحج:5-7]. ففي هذا بيانٌ وكفايةٌ.(1/365)