وأما ما احتجوا به من قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات:56]، فالمراد به المتعبَّدون منهم كما قال تعالى: {وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:1ـ3]، والأطفال من الناس لم يُؤمنوا ولا عملوا الصالحات فلما لم يستثنهم من الخسر (ولم يكونوا ممن استثنى) علمنا أن الآية خاصة للمتعبَّدين من الناس، فكذلك الآية الأولى، فلا حجة لهم بهذه الآية.
وأما ما روي عن القاسم، والمؤيد بالله عليهما السلام في ذكر العمر الطبيعي فإن مرادهما غاية العمر، وأكثر ما يُعمّر أهل العصر؛ لأنهما ذكرا المفقود، وليس غرضهما (أنه) العمر الذي لا يأذن الله بموت أحدٍ قبله.
وقد قال محمد بن القاسم عليهما السلام -في كتاب الآجال في مسائل علي بن جهشيار الطبري ردًّا على من زعم أن القتل بقضاء الله:(1/356)
ولقد قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}[الإسراء:31]، فلو لم يجعل الله أجلاً وأرزاقاً ثم ابتلاهم لم يكن ليقول: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} وما كان الله يَعِدُهُم الرزق وقد قضى عليهم الموت، إلا أنهم حين أطاعوا ربهم وانتهوا رزقوا هم وأولادهم إلى ما شاء الله من آجالهم،فمن شاء تبارك وتعالى أن يقدِّم أجله قدّمه، ومن شاء أن يُؤخر أجله أخّره إلى أجله، إذا ترك آباؤهم الاعتداء عليهم. وقد سئل قوم عن قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً}[آل عمران:145].
فقالوا: القتلُ هو الموتُ. ولسنا والحمد لله ننكر أن النفس لا تموت إلا بإذن الله، ولكن الأجل في ذلك أجلان: أجلٌ العباد فيه مبتلون، وأجلٌ إلى الله، فإن ترك العباد فيه الاعتداء على العبد، فإن شاء الله أن يقبضه في تلك الساعة فعل، وإن شاء أن يُؤخره فعل، والأمر في ذلك إلى الله في الموت والحياة، إن شاء الله أن يصرف اعتداء العباد فَعَلَ، وإن شاء أن يتركهم واعتداءهم فَعَلَ، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((الدعاء يرد القضا ، وإن البِرَّ يزيد في العمر، وإن الحج ينفي الفقر، وإن صدقة النهار تنفي ميتة السوء، وإن صدقة الليل تطفئ غضب الرب)).(1/357)
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((صِلَةُ الرَّحِمِ تزيد في العمرِ )). وعن علي عليه السَّلام أنه قال: (وصلة الرّحم فإنها ثروة في المال، ومنساةٌ في الأجل، وتكثيرٌ في العدد) فصح ما قلنا من أن الله تعالى يقبض روح من يشاء كما يشاء ومتى شاء صغيراً أو كبيراً، وأنه لا حد للعمر محدودٌ. وبطل قول المطرفية في المساواة في الموت والحياة.
وأما قولهم: (إن الله ساوى بين الناس في التعبد)، فإن في الشاهد أن الله تعالى تعبّد الأنبياء صلوات الله عليهم بتبليغ الرسالة، والقيام بصلاح الرعية، وتعبّد الأئمة بإقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، والقيام مقام الأنبياء ". فصح أن الناس على فرقتين: رعاةٌ ورعيّة، ولم يُساوِ في التعبد بين الرعاة والرعيّة. وأيضاً فلم يتعبّد المملوك بمثل ما تعبد المالك، فإن المملوك لا يجب عليه الحج إلا بإذن مولاه، ولا الجمعة، ولا الخروج في الجهاد ولا الهجرة إلا بإذن سيده، ولا زكاة عليه.
والمرأة أيضاً لم يتعبّدها الله بمثل ما تعبَّد به الرجال، فإنه لا يجب عليها الجهاد، ولا الجمعة، وصلاتها ناقصة عن صلاة الرجل، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في النساء: ((ما رأيت ناقصات عقلٍ ودينٍ أغلب لعقول ذوي الألباب منهن . قيل: وما نقصان عقولهن؟ قال: شهادة امرأتين بشهادة رجلٍ، ونقصان دينهن أن إحداهنّ تمكث نصف عمرها لا تصلي)) وفي بعض الأخبار ((شطر عمرها))، وفي بعض الأخبار: ((تمكث الليالي والأيام)) فصح أن الله ما ساوى بين الناس في التعبد.(1/358)
وأما قولهم: (إن الله ساوى بين الناس في المُجازاة). فالجزاء من الله على وجهين: جزاءٌ واجبٌ للعبد، أوجبه الله على نفسه، كقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}[الزلزلة:7،8]، وكقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ...} إلى قوله: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}[التوبة:111]، وكقوله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}[النساء:100]، وقوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ }[النساء:123]، وقوله تعالى: {وَقَعَ} بمعنى: وجب. فهذا وأمثاله هو الجزاء الواجب، وليس الناس فيه بسواء بل يُجزى كلٌّ بقدر عمله، والأعمال مختلفة. ونقول: إن الله ساوى بينهم في أنه يجزي كُلاّ منهم على عمله ولا يظلم أحداً منهم شيئاً.
والجزاء الثاني هو الزيادة على الأجر، وليس بسواءٍ بل قد زاد الله بعض الناس أكثر من بعضٍ، وزاد أيضاً فضل بعض الأعمال على بعضٍ في الأزمان والمكان والحال.
أما الزمان فإن الله تعالى فضّل الأعمال في شهر رمضان، وفي يوم الجمعة على سائر الزمان.
وأما المكان فإن الله فضل الكعبة، وبيت المقدس، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفضل الأعمال فيها على سائر المواضع.(1/359)
وأما الحال فإن الله جعل جزاء الصدقة في غير الجهاد عشر أمثالها، وجعل الصدقة في الجهاد بجزاء سبعمائة ضعفٍ، فقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}[البقرة:261].
ففي فضل الأوقات ما يقول الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر:1-3]. وروي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام في خطبة له: (أيها الناس إن الله لما خلق خلقه فضّل بعضهم على بعضٍ، فكان فيما فضّل من الأيام يوم الجمعة، فجعله للمسلمين سناءً ورفعةً، وكان فيما فضّل من الشهور شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآنُ).
وفي تفضيل بعض الناس على بعض ما يقول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأنعام:165] فبيّن تعالى الحكم والعلّة، وقال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً}[الإسراء:21].(1/360)