وأيضاً فإن المواريث رزقٌ من الله بالإجماع، وليست المواريث سواءً؛ وقد جعل الله لبعض الورثة كل المال، ولبعضهم نصفه، وجعل لبعضهم ثلثه، ومنهم من جعل له الربع، ومنهم من جعل له السدس، ومنهم من جعل له الثمن، فأين المساواة من الله في المواريث؟ فهذا منهم غلطٌ في الحساب وفي اعتقادهم!! وأعجب من هذا في المواريث: أنه لو ماتت امرأةٌ وتركت زوجها وأمها، وإخوتها لأمها، وأخاها لأبيها وأمها؛ أنه يُقْضَى لزوجها من مالها بالنصف، ولأمها بالسدس، ولإخوتها لأمها الثلث، ولا شيء لأخيها لأبيها وأمِّها، فبطل ما قالوا من المساواة في الرزق.
وأما قولهم: (إن الله ساوى بين الناس في الموت والحياة) فإن الله لم يساوِ بينهم في الموت والحياة فيما زاد على مائة وعشرين سنةً، وقد فرق بينهم في الموت والعمر فيما فوق مائة وعشرين، فمن الناس من عُمّر مائة وثلاثين وأكثر من ذلك إلى ألف سنة؛ قال الله تعالى في نوح عليه السَّلام: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا }[العنكبوت:14]، وكما كان الاختلاف موجوداً في الزائد على مائة وعشرين كذلك فيما دون المائة والعشرين.
وأما قولهم: (إنه لا يموت أحدٌ قبل هذا الحد الذي حدّوه بقضاء الله وفعله، بل بسببٍ عارضٍ لم يُرده الله)، وهذا القول ينتقضُ عليهم من وجوه:(1/351)


منها أن الطبيعة لا تكون أكثر من العوارض والفساد، ولو كان الفساد غالباً على الطبيعة لكان الفساد غالباً للصلاح، ولو كان ذلك كذلك لكان فعل الله مغلوباً؛ ولأنه لا يكاد يبلغ المائة والعشرين إلا القليل، مع أن من بلغ هذا الحد يكون عاجزاً ضعيفاً، قال الله تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ }[يس:68].
ومنها أن الله تعالى لم يهمل الخلق، ولا ضيّع العباد، قال الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ}[المؤمنون:115]، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}[ص:27]. وإذا كان موت من يموت قبل هذا الحد بغير تَعَدٍّ من أحدٍ ولم يكن من الله، فمن فاعل الموت الذي لم يُشاهد للميت قاتل؟ مثل من يناله مرضٌ فيموت منه، ولم يكن من الميت استجلاب له، ولا تضييع لنفسه، مثل من تأكله الحيّة في حرزه، ومثل من تُصيبه برقةٌ في منزله، ومثل موت النفساء على أولادها، فإذا كان هؤلاء وأمثالهم لم يجنوا على أنفسهم، ولا جنى عليهم آدميٌّ، ولا كان موتهم من قِبَلِ الله، فمن فاعل موتهم؟ فإذا لم يكن من الله بليّة يجزي الميت بها، ولم يكن من متعدٍّ عليه فيجب عليه القود، ولا من مخطٍ عليه فتجب الدية، فهل يكون إلا مهملاً مضيعاً مصابه في الدنيا والآخرة؟(1/352)


وإن قالوا: إن كل من أصيب بالموت قبل هذا الحد فإن مصابه من قِبَلِ تعدِّي من يتعدَّ عليه، أو تفريطه في نفسه؟ قلنا: الطفل إذا أصيب بمصيبة الموت، ولم يكن من أحد تعدٍّ عليه ولا تعدَّى على نفسه؟!
فإن قالوا: مصابه بتعد وتفريطٍ من وليه. قلنا: فلا يكون المتعدي عليه إلا مأثوماً، وإذا كان كذلك كان مصاباً بمصيبتين: إحداهما موت ولده، والأخرى: الإثم في تفريطه فيه وترك منعه للموت عنه، وهذا ما لا يقول به أحدٌ غير هذه الفرقة، وقد رُوي أن إبراهيم إبن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مات وهو ابن ستة عشر شهراً فإلى من ينسبون موته؟ وقد قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[غافر:67]، وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الزمر:42].(1/353)


وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا أراد أن ينام جعل يده اليمنى تحت خده ثم قال: ((اللهم باسمك وضعت جنبي وبك أرفعه، اللهم إن أمسكت روحي فاغفر لي وارحمني برحمتك، وإن أطلقته فاحفظني بما تحفظ به الصالحين))، فهل خاف النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أن يُمسك الله روحه قبل وقت إمساكه؟ أو جهل هذا الحد الذي حدّه المطرفية؟ فصحّ أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوقع الموت في ليله ونهاره. وقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من كان يُؤمل أن يعيش غداً فإنه يُؤمل أن يعيش أبداً، ومن كان يؤمل أن يعيش أبداً يقسُ قلبُه)). وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أخوف ما أخاف على أمتي الهوى وطول الأمل)). ومن طول الأمل أن يقول القائل: إن الله لا يريد له موتاً حتى يُعمَّر مائة وعشرين سنةً، وقد قال تعالى لنبيئه صلى الله عليه وآله وسلم: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[الحجر:98،99] واليقين هاهنا هو الموت. والأمة مجمعةٌ على أن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم مات بقضاء الله وقدره، وهو ابن ثلاث وستين سنة. وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((معترك منايا أمتي ما بين الستين إلى السبعين )). وقد قال الله تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[الواقعة:60،61].(1/354)


ومن تقدير الله للموت بين الناس أنهم يُولدون ويموتون على مهلٍ وهونٍ، ولا يكاد يجتمع موتُ ناسٍ كثيرٍ فيشتهر ذلك اشتهاراً ظاهراً، وكذلك لا يكاد يجتمع ولادة ناسٍ كثيرٍ فيشتهر ذلك اشتهاراً ظاهراً كثيراً.
ولا يموت الناس معاً كصريم الزرع بل يأخذهم الموت شيئاً شيئاً على مهلٍ، وكذلك ولادة من يولد منهم، فلا هم باقون ولا هم منقطعون، فمثلهم كمثل قومٍ يدخلون داراً مفترقين ويخرجون منها مفترقين، والدار هي الدنيا، ومنهم من يقيم فيها كثيراً، ومنهم من يُقيم فيها قليلاً، فهل هذا إلا بتقديرٍ من الله تعالى.
واعلم أن اعتقاد هذه الفرقة يُؤدي إلى جحدان النعمة والبلية، وضياع الشكر والصبر والأجر، وذلك في طفل يختار الله له ما لديه ويخلصه من بلاء الدنيا والآخرة، ويُنعم عليه، ويبتلي بموته والديه، فيجهلا ذلك القضا، ويُجانبا الصبر عليه والرضا ويبديا السخط منه والشكى، ولا يظنا أنه من الله نعمة على الطفل، وبلية لهما، فإذا كان ذلك كذلك كانا قد جحدا النعمة والبلية، وتركا الشكر والصبر، وضيّعا الأجر.
واعلم أن هذه الفرقة تكابر في أشياء من المسائل بغير حُجّة ولا برهانٍ من كتابٍ ولا سُنّة.(1/355)

71 / 115
ع
En
A+
A-