واختلف الناس في الآجال: فذهبت المجبرةُ ومن قال بقولهم إلى أن الآجال كلها محتومةٌ من الله تعالى، وأنه لو لم يكن من الجاني جناية لمات المجني عليه في ذلك الوقت، واستدلوا بقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً}[آل عمران:145]، وبقوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}[الأعراف:34].(1/346)
والرد عليهم: أن الله تعالى نهى عن قتل النفس التي حرم الله فقال تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أو فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}[المائدة:32] فلم يكن الله لِيُحرّم قتل النفس ويأذن به، ولا كان يُعذّب القاتل على فعل غيره. وقوله: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} المراد به: من منعها من القتل وصرف ظلم الظالم عنها. ولو كان من يُقتل لو سَلِمَ من القتل لمات في ذلك الوقت، لكان من يذبح بهيمة غيره مأجوراً غير مأزورٍ، ولم يُحكم عليه لصاحبها بشيءٍ لأنه لو تركها لماتت، فكانت ميتة، فكأنه قد أحسن إلى صاحبها، وكذلك القاتل لا يجب عليه قودٌ ولا ديةٌ في جرح من قد أذن الله بموته؛ ولو كان ذلك كذلك لكان خارجاً من الحكمة أن ينهى الله عن شيءٍ ويأذن به، ويعذب عليه من فعله. وأما قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً}[آل عمران:145] فإن الموت غيرُ القتل، قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رسول قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}[آل عمران:144] فصحّ أن الموت فعل الله، والقتل فعل القاتل. وقوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}[الأعراف:34] يُريد: أجل الموت الذي هو غير القتل.(1/347)
وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}[آل عمران:154] المراد بالكتاب هاهنا العلم، يقول: لبرز الذين علم الله أنهم يُقتلون إلى مضاجعهم، وعِلْمُ الله سابق غيرُ سائقٍ.
وذهبت المطرفية إلى أن الآجال ليست من الله، إلا أجل من بلغ مائةً وعشرين سنةً، فمن بلغ مائةً وعشرين سنةً ومات، فالله أماته، ومن مات قبل ذلك فلم يرد الله موته وإنما ذلك بتعدي من تعدّى وظلم [من ظلم]، وبأسباب وأعراضٍ وأمراضٍ ليست من الله ولا قصدها، ولا قصد موت الميت، إلا إذا بلغ الحد الذي ذكروه وقالوا: هو العمر الطبيعي، واحتجّوا بقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات:56]. وقالوا: إن الله تعالى ساوى بين الناس في ستة أشياء: في الخلق والرزق، والموت والحياة، والتعبّد والمجازاة. وهذا منهم غلطٌ عظيمٌ، وخطأٌ من القول وخيمٌ.(1/348)
أما قولهم: إن الله تعالى ساوى بين [الناس في] الخلق، فليس الذَّكر كالأنثى، ولا الكامل كالناقص، ولا الفصيح كالأعجم، ولا الصَّبيح كالقبيح، ولا الأبيض كالأسود، ولا العربي كالزِّنجي، ولا الشريف كالوضيع، ولا المالك كالمملوك؛ وهذا مشاهد بيِّنٌ لا ينكره عاقلٌ، ولا يُماري فيه إلا جاهلٌ، وقد قال الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[الزخرف:32]، فبيّن أنه رفع بعضهم فوق بعض درجاتٍ، وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}[النحل:75]، وقال عز من قائلٍ حاكياً عن امرأة عمران: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى}[آل عمران:35،36]، وقال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ }[النساء:34]. فصح أن الله تعالى ما ساوى بين الناس في الخلق.(1/349)
وكذلك لم يُساوِ بينهم في الرزق، بل رزق بعضهم أكثر من بعض، وذلك مشاهدٌ ظاهرٌ، وقَلَّ ما يوجد أخوان لأبٍ وأمٍّ مستويان في الرزق، ولو كانت صنعتهما واحدة، واستطاعتهما [واحدة]، فكيف يستوي جميع الناس؟! وبعضهم رزق في ذاته لبعض مثل الولد للوالد، والمملوك للمالك، فإن الولد رزقٌ للوالد، والمملوك رزق للمالك، فكيف يستوي الرزق والمرزوق، وقد رأينا أرضاً ينزل (الله) عليها المطر في كل وقتٍ يحتاج الناس إليه، ويصرف عنها الآفات، ورأينا أرضاً لا يكاد أهلها يعرفون المطر، ولا يزالون في عسرٍ وعسير، ورأينا أرضاً يكون فيها الزرع والثمر، فيُصيبها الله بالريح وبالجراد والبَرَد، وهذا مشاهدٌ بيّنٌ، فأين المساواة من الله؟ إلا أن يقولوا: ليس الغيث من الله، والريح والجراد والبرد؛ فإن قالوا ذلك جحدوا بعض خلق الله وبليته ونعمته؛ وقد قال الله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ }[النحل:71]، وقال تعالى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ، أو يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}[الشورى:49،50].(1/350)