السَّلام إلى نحو صنعاء، وقد كان أمّن أهلها فحط بالقرب منها، ولم يدخل بالعسكر خوفاً من معرَّتهم بأهل المدينة، ثم أمر بخراب درب غمدان الذي عمره حاتم بن أحمد، وكانت فيه عناية أكيدة جداً فعفيت آثاره، وبعد هذه الوقعة خضعت له عليه السَّلام الملوك الأكابر، وذلت له الليوث القساور، وأقام عليه السَّلام في ناحية بيت بوس، حتى بذلت فيه الأموال الجليلة من حاتم بن أحمد إلى مائة ألف من محمد بن سبأ صاحب عدن سوى الأطيان وغيرها، فسلم الله من مكرهم...).
وقد سجل الشاعر القاضي محمد بن عبدالله الحميري ـ رحمه الله ـ أحداث هذه المعركة في أبيات أرى من الضرورة إيرادها لما لها من أهمية في وصف المعركة، إضافة إلى هذا كونها من شاعر شارك فيها برمحه وسيفه:
تهنى بك الأعياد إذ أنت عيدها .... وإذ أنت منها بدرها وسعودها
سبقت إلى غايات كل فضيلة .... بعلياء تبديها لنا وتعيدها
أقمت منار الدين يا ابن محمد .... وصرت كمثل الشمس بادٍ عمودها
فأشرقت الآفاق منك بغُّرة .... كثير لرب العالمين سجودها
ألست الذي أحييت دين محمد .... وأسيافه مُذْ كلّ منها جديدها
ألست الذي ذكّرتنا وقعاته .... وبيض الليالي قد محتها وسودها
بنجران والغيل الشهير وصعدة .... وصنعاء والجوفين باقٍ شهودها
ويوم نهضنا من ذمار بخيلنا .... وزيد بن عمرو يوم ذاك عميدها
كتائب من جنب بن سعد ومذحج .... تعادَي بهم خيل خفاف لبودها
يهزّون أطراف الوشيج كأنما .... عليها سيوف فارقتها غمودها
فلما وصلنا نجد شيعان أقبلت .... علينا الأعادي كهلها ووليدها(1/31)
وظنوا ظنوناً في الخلاء كذبنهم .... أليس عن الأخياس تحمي أسودها
ولما أطل الموت واشتجر القنا .... ودارت رحاها واشتتبّ وقودها
ركزت لهم صدر القناة كأنما .... جبال ثبير ثمّ أرسا ركودها
وقلت لمرِّ النفس صبراً فهذه .... حياض الردى حقاً وأنى ورودها
فإن لم يكن نصر وإلا شهادة .... تكون خلاصاً لي فتلك أريدها
وواساك من أهل الديانة عصبة .... كثير إذا شدّت قليل عديدها
فليت قبوراً بالمدينة بشرت .... بما فعلت من بعد حين جنودها
صعقنا عليهم صعقة مذحجية .... فكادت لها تلك الجبال تميدها
فيا للأكام السود لولا صعودها .... لقد كادت الأبطال جمعاً تبيدها
فخمس مئين حُزّ منها وريدها .... وخمس مئينٍ ثقّلتها قيودها
وطاروا إلى روس الجبال شلائلاً .... من الخوف فيها خافقات كبودها
وسرنا لغمدان المنيف فأصبحت .... ذوائبه في الترب ثاوٍ مشيدها
وأضحى ابن عمران المتوّج حاتم .... يقول ألا عفواً فلست أعودها
وأنت بنفس لا يزال نفيسها .... إلى كل مجدٍ أو طعان يقودها
فيا ابن أمير المؤمنين ومن له .... سوابق مجدٍ ليس يحصى عديدها(1/32)
إذا طلبت همدان منك إقالةً .... وسنحان يوماً واستقام أويدها
فعُد لهم بالصفح منك وبالرضى .... فلن يبلغ الغايات إلا معيدها
وحاشاك أن تنسى السوابق منهم .... وما فعلته في القيود جدودها
أتعلم أن الحق قام بنصره .... إلى الآن قحطان ابن هود وهودها
وتعلم قحطان وهمدان إن عصت .... مقالك إنّ الله وهناً يزيدها
فقُد جمعها يا ابن النبي إلى الهدَى .... فليس يقود القوم إلا رشيدها
فما اجتمعت خيل الطعان بمشهدٍ .... تكون به إلاّ وأنت وحيدها
ولا اعتركت خيل وخيل طعائن .... بحرّ القنا إلا وأن تحيدها
ولا اجتمعت يوماً نزار ويعرب .... بمجتمع إلا وأنت تسودها
وإنك للمنصور من آل هاشم .... وما بعدها من غاية تستزيدها
وكل أناس أعرضوا عنك وامتروا .... فما هم من الإسلام إلا يهودها
فدمت مدى الدنيا لأمة أحمد .... تشد لها أركانها وتشيدها(1/33)
2ـ معركة غيل جلاجل
ومن معاركه المشهورة معركة (غيل جلاجل) وكانت بينه وبين جماعة من (وادعة الخانق) الذين أظهروا مذهب الباطنية، واستحدثوا المنكرات، يقول المؤرخ زبارة: (في رجب سنة 549هـ تسع وأربعين وخمسمائة، كانت وقعة (غيل جلاجل) بالخانق من بلاد (وادعة) الشام، وكان قد تظاهر منهم ومن (يام) بمذهب الباطنية، وأحيوا بعدة ليلة الإفاضة التي يجتمع فيها الرجال والنساء منهم، ويفضي بعضهم إلى بعض بعد إطفاء مصابيحهم، وربما وقع الرجل منهم على ابنته أو أخته أو أمه، ولما بلغ الإمام ذلك غضب، وسار إلى بلاد الشام من جهات صعدة، فوصل إلى بلاد (بني شريف) و(سنحان الشام) ودعاهم إلى جهاد أهل (وادعة) و(يام) ثم أقبلت إليه قبائل (نهد) و(جنب) و(خثعم)، وقصد بهم وادعة و (يام)، ووقع القتال الشديد، والمعارك العظيمة التي انجلت بانهزام (الباطنية) وفرار من نجا منهم إلى نجران، وقال الإمام في ذلك قصيدته التي منها:
الله أكبر أي نصر عاجل .... من ذي الجلال بفتح (غيل جلاجل)
كم منةٍ منه عليّ ونعمة .... وسعادة تترى، وفضل فاضل
كفرت به (يام) و(وادعة) معاً .... وتجبّروا، وتمسّكوا بالباطل
وأتوا من الفحشاء كل كبيرة .... فعلاً وقولاً، فوق قول القائل
دانوا بدين الباطنية وهو من .... دين المجوس وفوق جهل الجاهل
ومنها:
إني لحرب (الباطنية) قائم .... وأنا لهم ضدٌّ ولست بغافل
كم قد ظفرت بهم فلم أظلم، وكم .... جاشت بحرب الكافرين مراجلي
إني دمار الفاسقين ودمارهم .... للظالمين كمثل سم قاتل
وعلى يديّ هلاكهم، ودمارهم .... آتي عليهم بالقضاء النازل(1/34)
يرجون أن حصونهم تنجيهم .... وحصونهم لهمُ ككفّة حابل
ولسوف أنفيهم بعون إلهنا .... حقاً، وألحقهم وراء الساحل
يا قوم فاعتبروا بذاك وأبشروا .... فلقد ظفرتم بالإمام العادل
ما بعدها عاينتموه شبيهةٌ .... لمميّز في أمره أو عاقل(1/35)