وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((اذكروا الموت، وكونوا من الله على حذر ، فمن كان يؤمل أن يعيش غداً فإنه يؤمل أن يعيش أبداً، ومن يؤمل أن يعيش أبداً يقسُ قلبُه)).(1/341)


فصل في الكلام في الآجال
اعلم أن الأجل أجلان: أجل محتوم، وأجل مخروم.
أما الأجل المحتوم فمن الله تعالى (جعله) كما شاء، ومتى شاء،و كيف شاء، وحَتَمهُ وقدّره، قال عز من قائلٍ: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[الواقعة:60،61]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً}[آل عمران:145]، فهذا هو [الأجل] المحتوم.(1/342)


و[الأجل] المخروم من فعل العباد، وهو كُلُّ ما كان يجب فيه القصاص أو الدية أو كان قصاصاً بذاته، أو حداً، فهذا الأجل من فعل العباد، ولا يُنسب إلى الله تعالى؛ ولأن الله قد أعطى العباد الاستطاعة على فعل الطاعة وعلى فعل المعصية، وعلى فعل الشيء وتركه، ومكّنهم وخلاهم للبلية. وقد يصرف التَّعدّي والظلم عن بعض خلقه لمصلحةٍ في ذلك، ويكون الصّرف منه باللطف، ويكون بالقهر كصرفه لفرعون عن موسى عليه السَّلام في صغره باللطف، فإن الله أوجد له في قلب فرعون وقلب امرأته رحمةً ورأفةً، وصرفه عنه في كبره بالقهر حيث فرق له البحر فأنجى وَليّه وأغرق عدوه، وذلك لِمَا أراد من موسى عليه السَّلام من تبليغ الرسالة والهدى للناس من الجهل والضلالة والردى. وكذلك إبراهيم عليه السَّلام لما رُمِيَ به في النار فجعلها الله برداً وسلاماً، وكذلك عيسى بن مريم عليه السَّلام فإن الله فداه ببعض الذين أرادوا قتله، قال الله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ }[النساء:157].(1/343)


فأما من لم يصرف عنه ظلم ظالمه فوجه الحكمة في هذه البليّة من الله أنه يعيض القتيل المؤمن المظلوم في الجنة ثواباً عظيماً، ويُعذّب الظالم له عذاباً أليماً، وذلك لأن الدنيا فانية وعذابها فانٍ، وكذلك نعيمها فانٍ، والآخرة باقيةٌ ونعيمها باقٍ، وكذلك عذابها باقٍ، فاختار الله لأوليائه الآخرة ونعيمها، قال عز من قائلٍ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة:111]، وقال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ }[الحج:40]، فأوجب على نفسه لمن قُتِلَ في سبيل الله الأجر، وضمن له بالإنتقام والنصر، وانتصارُ الله تعالى للشهيد في الآخرة، وقد يكون بعض النصر في الدنيا، قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}[غافر:51،52]، وقال تعالى فيما أوعد الظالمين: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء:93].(1/344)


وقد روي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما من أحدٍ يدخل الجنة فيُحب أن يرجع إلى الدنيا ولو أن له ما على الأرض إلا الشهيد فإنه يتمنّى أن يرجع، فيُقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة)). وعن زيد بن علي عليه السَّلام عن أبيه عن جده عن علي " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((للشهيد سبع درجاتٍ : فأول درجةٍ من درجاته أن يرى منزلته من الجنّة قبل خروج نفسه فيهُون عليه ما به.
والثانية: أن تبرز إليه زوجته من حُور العين فتقول: أبشر يا ولي الله، فوالله ما عند الله خير لك مما عند أهلك.
والثالثة: إذا خرجت نفسه جاء خزنة من الجنة فتولوا غسله وكفّنوه وحنطوه وطيبوه من طيب الجنّة.
والرابعة: فإنه لا يهون على مسلمٍ خروج نفسه مثل ما يهون على الشهيد.
والخامسة: أنه يُبعث يوم القيامة وجرحه يشخب مسكاً، ويُعرف الشهداء بروائحهم يوم القيامة.
والسادسة: ليس أحد أقرب من عرش الرحمن من الشهداء.
والسابعة: أن لهم في كل جمعةٍ زورةً فيحيون بتحية الكرامة، ويُتحفون بِتُحفِ الجنة فيقال: هؤلاء زُوّار الله تعالى)). ومعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن لهم في كل جمعةٍ زورةً )) يريد في كل مقدار جُمعةٍ إذ ليس ثَمَّ أيام ولا ليالي، وقد قال الله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ }[الأعراف:54] المراد به: في مقدار ستة أيام؛ لأن الأيام والليالي أحدثها الله تعالى بعد خلق السماوات والأرض، وهي مقدار حركة العالم، فثبت أنها بعده.(1/345)

69 / 115
ع
En
A+
A-