فصل في الكلام في الموت
اعلم أن الموت آخر بلايا المؤمنين، وأوّل نقمة العاصين وفيه نعمةٌ، وثلاث بلايا.
أما النّعمة فإن الله جعله موعظةً للمؤمنين، وعبرةً للمسلمين، وتذكرةً لجميع المكلفين، وتحذيراً وتخويفاً للمعتدين، ولولا ذكر الموت وخوفه ما ازدجر من اتّباع الهوى مزدجرٌ، ولا فعل ما يُؤمر به مؤتمرٌ إلا من علم الله.
وأما البلايا الثلاث: فواحدةٌ منهنّ عامّة لجميع المكلفين، وواحدةٌ خاصّةٌ لعيال الميّت وأقاربه وأصحابه، ومن يضرّه موتُهُ، وواحدةٌ خاصّةٌ للميت في نفسه.(1/336)
فأما البلية العامة لجميع المكلفين: فإن الله جعل الموت والفناء بليّةً ابتلى بها عباده لينظر من يُؤمن بالآخرة، ويُصدِّق بالغيب، ويعمل ما يأمره به، وينتهي عما نهاه عنه فيثيبه ويجزيه، ويخلّده في الجنان، وينظر من يُكذِّب بالآخرة والوعد والوعيد، ولا يأتمر بأمره ولا ينتهي عن نهيه، فيُخلّده في النيران ويُعذّبه بالخزي والهوان، ولو لم يكن موتٌ ولا فناءٌ ولم تكن الجنة والنار غائبتين، وكانتا حاضرتين مشاهدتين في الدنيا لم يكن إيمان من يؤمن بهما عجيباً، ولا كان من يعمل للجنة المشاهدة ويخاف النار المشاهدة مستحقًّا للأجر؛ لأن البهائم قد تستجلب المنافع المشاهدة، وتنفر عن المضار المشاهدة، فصح أن الله جعل الموت بليّة، وأن من آمن بالغيب يكون مستحقًّا للثواب، ومن كذّب به يكون مستحقا للعذاب؛ قال الله تعالى: {الم ، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[البقرة:1ـ3]، فمدح الله من يُؤمن بالغيب.(1/337)
وأما البلية الخاصّة لعيال الميّت وأقاربه وأصحابه: فإن الله تعالى جعل الناس يحتاج بعضهم إلى بعضٍ، ولم يجعل لبعضهم غنًى عن بعض، وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام قال: قلتُ وأنا عند النبيء صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم لا تحوجني إلى أحد من خلقك). فقال النبيء صلى الله عليه وآله وسلم: ((مَهٍ يا عليّ لا تقولن هكذا ، فإنه ليس أحدٌ إلا وهو يحتاج إلى الناس، قال: فقلت: كيف أقول يا رسول الله؟ قال: قل: اللهم لا تحوجني إلى شرار خلقك. قال: قلتُ: يا رسول الله ومن شرارُ خلقه؟ قال: الذين إذا أعطوا مَنُّوا وإذا منعوا عابوا)). فصح أن موت الإنسان بليّة لمن كان محتاجاً إلى الميّت.(1/338)
وأما البليّة التي تخُصُّه في نفسه، فهدم ما كان منه مبنيًّا، ومصيره إلى الضّعف بعد ما كان قويًّا، وكونه مَوَاتاً جماداً بعد ما كان حيواناً سويًّا مع تجرُّعه للمرارات، وكونه من الموت في الغمرات والألم الشديد، والكرب المفني له المبيد، وحسرة الولي وغمه، وشماتة العدوِّ العنيد، ومفارقته لما يُحبُّ من الناس والأموال والعافية والسّلامة والجمال، وكفى بالموت واعظاً وزاجراً عن المحرّمات، ومُرغّباً في أفعال الطاعات، فلو لم يشاهد الإنسان العاقل مَيّتاً ولم يره ثم أخبر عنه مُخْبِرٌ صادقٌ لوجب أن يخاف الموت ويزهد في الدنيا الفانية، ويرغب في الآخرة الباقية؛ فكيف وهو يشاهد أباه وولده وأخاه وصاحبته وأمته وأولياءه تُنزع أرواحهم في حجره ثم يحمل الواحد منهم فيدفنه في قبره، ثم ينسى ذلك ويلهو بفسقه وكفره، قال الله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ، مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ، ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ، ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ، كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ}[عبس:17-23].
واعلم أن الصبر على الموت هو الرضا به، وترك السخط منه؛ ولأنه لا بد لكل نفسٍ من الموت لمن صبر ولمن لم يصبر؛ قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ }[آل عمران:185]، وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ}[الرحمن:26،27].(1/339)
واعلم أن الله تعالى أخفى وقت الساعة ووقت هجوم الموت ليكون العبدُ خائفاً لقيام الساعة وهجوم الموت في كل وقتٍ وحينٍ، وليكون مستعدًّا للموت ونزوله في جميع الأوقات، وليكون ذلك أقرب للبلاء وأنفع للمبتلَى؛ ولأنه لو كان العبد يعلم وقت قيام الساعة ووقت هجوم الموت عليه لكان أكثر الناس يتبع الشهوات ويلهو عن الصلوات وجميع الواجبات، فإذا قرب منه الموت وعلمه وتحقّقه تاب ورجع من سيِّءِ أفعاله وأناب، وكان هذا خارجاً من الحكمة ومجانباً للبليّة، وسبباً لكثرة الفساد، ومُسقطاً لحقوق الله وحقوق العباد، وإغراءً بالمعصية، فصحّ أن الله تعالى أخفى وقت الساعة، ووقت هجوم الموت لصلاح العباد.
واعلم أن الغفلة ونسيان الموت وطول الأمل أضرُّ ما يكون على الإنسان؛ ولأن ذلك يدعو إلى اتِّباع الهوى، وبيع الباقي بما يزول ويفنى. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أخوف ما أخاف على أمتي الهوى وطول الأمل، أما الهوى فيضل عن الحق، وأما طول الأمل فيصد عن الآخرة، وهذه الدنيا مرتحلةٌ ذاهبةٌ، والآخرةُ قادمةٌ؛ ولكل واحدٍ منهما بَنون، فإن استطعتم أن تكونوا من أبناء الآخرة فافعلوا، وأنتم اليوم في دار عملٍ ولا حساب، وأنتم غداً في دار حسابٍ ولا عمل، وأنتم اليوم في المضمار وغداً في السباق، والسابق إلى الجنة، والمتخلّف إلى النار، وبالعفو تنجون، وبالرحمة تدخلون، وبأعمالكم تقتسمون)).(1/340)