ولم يبتل أحدٌ بمثل ما ابتلى الله به خليله إبراهيم عليه السَّلام، فإنه ابتلاه بذبح ولده إسماعيل عليه السَّلام من بعد أن دعى ربّه أن يهب له ولداً صالحاً لتوحُّده وانفراده من الأولاد والأصحاب. فلما وهب له ولداً صالحاً أمره بذبحه؛ فهذا هو البلاء العظيم الذي لم يُبْلَ به سواه، قال الله تعالى حاكياً عن إبراهيم عليه السَّلام: {وَقَالَ إِنّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ، رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ، فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}[الصافات:99ـ107]، ومثل هذا البلاء لا تُطيقه النفوس، وقد تُطيقه الأجساد. وقول الله تعالى: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ }[البقرة:286]، المراد: ولا تُحملنا ما لا تطيقه نفوسنا. فأما الأجساد فإن الله لا يُحملها ما لا تطيق؛ وذلك لا نخاف وقوعه من الله، وإنما أمرنا الله بالدعاء مما نخاف وقوعه منه أن لا يوقعه بنا.(1/331)
فصل في الكلام في الصبر على البلية
اعلم أن حقيقة الصبر على البلية هو الرضا بالقضا، وترك السخط منه والشكا، وأما من ابْتُلِيَ ببلاءٍ فلم يرضَ به وسخط منه وشكاه فليس ذلك بصابرٍ، وقد روي عن جعفر بن محمد عليهما السلام: (أنه وفد عليه شقيقُ البلخي فقال له: من أين أتيتَ؟ فقال: من خراسان. فقال: كيف التّوكل هنالك؟ قال: إذا رُزقوا أكلُوا، وإذا مُنعوا صبروا. فقال جعفر بن محمد عليهما السلام: هكذا كلابُ المدينة عندنا إذا رُزقت أكلتْ، وإذا مُنعتْ صبرتْ، فقال شقيق: فكيف هو عندك يا ابن رسول الله؟ قال: التّوكّل عندنا إذا رُزقنا آثرنا، وإذا مُنعنا شَكرنا). فدل كلامه على أن من لم يرضَ بالبلية فليس بصابرٍ عليها؛ لأن الكلاب لا ترضى بالمنع، ولا فضلَ لمن لم يجد بُدًّا من الصبر فصبر وهو غير راضٍ به، وهذه صفة البهائم. وإنما الصابر من رضي بالبليّة، ورجا ثوابها من الله، ولم يَشْكُ ما أصابه إلى المخلوق.(1/332)
ومن أفضل الصّبر أن لا يدعو إلى الله لزوال البلية إلا إذا أجهده الأمر ولم يجد للصبر موضعاً، كما فعل أيوب عليه السَّلام، فإنه دعا إلى الله، قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}[ص:41]، وكذلك قال يعقوب عليه السَّلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ }[يوسف:86]، ولم يَدْعُوَا ربهما بزوال البليّة إلا عندما أجهدهما الأمر، ولم يَجِدَا للصبر موضعاً؛ ولأنهما لو سألا ربهما زوال البليّة في مبتدئها لم يكونا راضيين بالبليّة. ولا يكون العبْدُ صابراً على البليّة إلا إذا كان راضياً بها وكان يقدر على الخروج منها فيختار الصبر عليها، مثل أن يصيبه الله بألمٍ فيرضى به ولا يسخط منه ولا يشكوه إلى مخلوقٍ. ومثل من يصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى، ويصبر على كظم الغيظ وهو يقدر على الانتصار، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ألا إنه سيكون أقوامٌ لا يستقيم لهم الملك إلا بالقتل والتّجبر، ولا يستقيم لهم الغنى إلا بالبخل والفجور، ولا تستقيم لهم المحبّة في الناس إلا باتّباع الهوى، فمن أدرك ذلك منكم فصبر على الذل وهو يقدر على العز، وصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى، وصبر على البُغضة في الناس وهو يقدر على المحبّة، لا يريد بذلك إلا وجه الله والدار الآخرة، أثابه الله تعالى ثواب خمسين صدِّيقاً)).(1/333)
واعلم أن أعظم ما ابْتُلِيَ به الإنسان الشهوة والكراهة، قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[آل عمران:14]، فهذه الأشياء التي سماها الله، هي أجلّ ما ولعت النفوس بشهوته، فأشدها محبّة النساء ثم البنون ثم هي على هذا الترتيب المرتّب في الآية إلى الحرث. فكانت الشهوةُ لهذه الأشياء، والحاجة إليها بليّة ابتلى الله بها الناس، فمن صبر عنها وامتنع من الهوى فلزم نفسه من اتّباع الشهوات فاز بالحسنى وكان عند الله من الكرماء، قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى ، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:37-39]، وقال عزّ من قائلٍ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }[الحجرات:13]، فكانت الشهوةُ من أعظم البلايا.(1/334)
وكذلك الغضبُ من البلايا الكبار فإنه لا يكاد يصبر على كظم الغيظ عند الغضب مع القدرة على الانتصار إلا ذو حظٍّ عظيمٍ كما قال الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ}[فصلت:34،35]، وقال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}[الشورى:43]. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((اتّقوا النساء، واتقوا الغضب ، فإنه جمرةٌ يتوقد في جوف ابن آدم، ألا ترون إلى انتفاخ أوداجه، وحمرة عينيه، فإذا أحس أحدكم بشيءٍ من ذلك فليذكر الله سبحانه وتعالى)). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي عليه السَّلام: ((يا عليُّ إن من اليقين أن لا تُرضِي أحداً بسخط الله ، ولا تحمد أحداً على ما آتاك الله، ولا تذمّ أحداً على ما لم يُؤتك الله، فإن الرزق لا يجره حرص حريصٍ، ولا يصرفه كراهة كاره، إن الله بحكمه وفضله جعل الرَّوحَ والفرح في الرضا، وجعل الهمّ والحزن في الشك والسخط)).
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من كظم غيظاً وهو قادرٌ على أن ينفذه دعاه الله عز وجلّ [يوم القيامة] على رؤوس الخلائق حتّى يخيره في أيِّ جواره شاء)).(1/335)