فصل في الكلام في الرزق
اعلم أن الرزق جعله الله للناس، والدواب، والطير، متاعاً، وجعل هذه الأصناف لا تحيا إلا به، وجعل الحاجة إليه بليّة.
واعلم أن الرزق ينقسم قسمين: فقسم منه أنعم الله به على عباده؛ كالمواريث والمطر والشجر والثمر والعافية وتمام الاستطاعة، وأمثال ذلك. وقسم يحصل بالاكتساب والطلب؛ كالتجارة والضّرب في الأرض، والإجارة والصناعة والحرث، وأشباه ذلك. فجعل الله بعض الرزق لا يحصل إلا بالاكتساب. والطلب بلية ومحنة وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي عليه السَّلام: ((يا علي غَمُّ العيال سِترٌ من النار ، وطاعة الخالق أمانٌ من العقاب، والصبر على الفاقة جهادٌ، وأفضل من عبادة ستين سنة)).
واعلم أن الرزق من الله عامٌّ لجميع المرزوقين، المكلفين وغير المكلفين، المطيعين والعاصين. والرزق من تمام الخلق، ولولا الرزق من الله لما حَيَّ المرزوق، ولكانت الحجة على الخالق للمخلوق -تعالى الله عن ذلك، بل خلق ورزق، وأسبغ النعمة وأكمل له على خلقه الحجة.(1/326)
وذهبت المطرفية إلى أن الله لم يرزق العاصي، وأن كل ما تناوله العاصي من الحلال والحرام غصبٌ اغتصبه، وليس برزقٍ له، ولم يسمعوا قول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ}[الروم:40]، وهذا خطاب من الله يقال للمشركين، وقال تعالى: {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}[الإسراء:20]، وقال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا ، وَبَنِينَ شُهُودًا ، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ}[المدثر:11-15]، وقال تعالى: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ ، إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}[قريش:1ـ4]، وقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}[الإسراء:31]، وقال تعالى -حاكياً عن إبراهيم عليه السَّلام: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً}[البقرة:126]، وقال: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ}[الأنعام:94]، وهذا في القرآن كثير. ومن أنكر هذا فقد أنكر نعمة الله.(1/327)
وروي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا يتوارث أهل ملتين )) وعلى هذا لو أن ذميًّا مات وله ولدان أحدهما مسلم والآخر كافر لقضي بماله لولده الكافر ولم يكن للمسلم شيءٌ. والميراث رزقٌ من الله تعالى بالإجماع فسقط قولهم.
واعلم أن أكرم الناس عند الله أكثرهم بليّة، وأكبر البلايا أكثرها ثواباً؛ من ذلك ما ابتلى الله به الأنبياء صلوات الله عليهم من إبلاغ الرسالة، وتحمّل كلفة الأمر وسياسة الناس، وفي خلال ذلك بلايا تصيبهم؛ مثل الجوع والعطش والخوف، والعلل المؤلمة، والأمراض المتعبة، مثل ما ابتلى الله به أيوب عليه السَّلام من الضرّ الذي ذكره الله، وقيل: إنه الجذام.
ومثل ما لقي يونس عليه السَّلام من الغرق، والتقام الحوت له.(1/328)
ومثل ما كان نبيئنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم يلقى من الخصاصة، والجوع، وذلك بسبب إيثاره على نفسه، واختياره للفقر لما علم فيه من الأجر، وقد قال الله تعالى فيه، وفي عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين": {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا}[الإنسان:8،9]. وروي عن سويد بن علقمة قال: (أصابت عليًّا عليه السَّلام خصاصة، فقال لفاطمة+: لو أتيت النبيء صلى الله عليه وآله وسلم فسألتيه، فأتتهُ وكانت عنده أم أيمن، فدقت الباب، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن هذا الداق فاطمة ، وقد أتتنا في ساعة ما عوّدتنا أن تأتينا في مثلها، فقُومي فافتحي لها الباب))، فقال عليه السَّلام: ((يا فاطمة لقد أتَيْتِنَا في ساعة ما عوّدتنا أن تأتينا في مثلها؟)) فقالت: يا رسول الله هذه الملائكة إن طعامها التسبيح والتهليل، والتّحميد والتّمجيد، فما طعامنا؟ قال: ((والذي نفس محمد بيده ما اقتبس لآل محمد نار منذ ثلاثة أيام، وقد أُتينا بأعنزٍ فإن شئت فخُذي خمس أعنزٍ، وإن شئتِ علّمتك خمس كلماتٍ علمنيهن جبريل عليه السَّلام؟)) قالت: بل علّمني الكلمات، قال: قولي: ((يا أول الأوّلين، ويا آخر الآخِرين، ويا ذا القوة المتين، ويا رازق المساكين، ويا أرحم الراحمين)) فانصرفت حتى دخلت على عليٍّ عليه السَّلام فقال: ما وراءك؟ فقالت: ذهبتُ من عندك إلى الدنيا فأتيتك بالآخرة، قال: خير أيّامك، خير أيامك).(1/329)
فاختار صلى الله عليه وآله وسلم الفقر له، ولأهل بيته "، وكان الغنى مُمْكناً له، لِمَا رُوي عن محمد بن أبي طلحة الأنصاري عن أبيه قال: لبث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيامٍ لم يطعم شيئاً فخرج علينا اليوم الرابع مستبشراً مسروراً، فقلنا له: بشرك الله يا رسول الله، وأقرّ عينك، بشّرنا بآبائنا وأمهاتنا، قال: ((نعم، جاءني حبيبي جبريل عليه السَّلام في صورةٍ لم يأتني في مثلها قط، شَعره كالمرجان والدّرّ، برّاق الثّنايا، على فرسٍ من أفراس الجنة، سرجُهُ من ذهب، ولجامه من ذهبٍ، تحته قطيفة من استبرق، فقال لي: يا رسول الله، السَّلامُ يُقْرِؤُكَ السّلام، ويقول لك: أتحبُّ أن أجعل لك تهامة ذهباً، وفضةً، تزول معك حيث تزول، ولا ينقصك ذلك مما وعدك الله في الآخرة جناح بعوضةٍ، فقلت له: أعْمُرُ ما خرب الله يا جبريل؟! إن الدنيا دارَ من لا دارَ له، ومال من لا مال له، ويجمعها من لا عقل له، فقال جبريل عليه السَّلام له صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله وفقك الله [يا رسول الله] لقد أخبرني بكلامك هذا إسرافيل تحت العرش من قبل أن آتيك)) فصح أنه صلى الله عليه وآله وسلم اختار الفقر على الغنى.(1/330)