ويجب على القاذف إذا قذف مؤمناً ولم يأت بأربعة شهداء التوبة وتسليم نفسه إلى الإمام ليأخذ منه حد القذف للمقذوف أو لورثته، إلا أن يعفوَ عنه المقذوف أو ورثته قبل المطالبة إلى الإمام، وإن لم يكن إمامٌ سأل المقذوف الحلَّ، وعلى من طُلبَ منه الحلُّ في هذا أو في الغيبة أن يحل ويعفوَ، لِمَا روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أفضل الفضائل أن تُعطي من حرمك ، وتصفح عمن شتمك، وتصل من قطعك)).
وحقيقة التوبة الندم عن فعل الذنب كائناً ما كان -تركَ فريضةً، أو عمل معصية- فهذا يجب الندم من فعل المعاصي، وترك الواجبات، والعزم على أن لا يفعل معصية، ولا يترك واجباً، والخروج عن المظالم.
ومن الندم أن لا يتوب من ذنبٍ ويرتكب ذنباً مثله؛ وهذا مرويٌّ عن القاسم بن إبراهيم عليه السَّلام، وهو قول جميع الزيدية، وبه قال أبو هاشم وأكثر المعتزلة. وقال أبو علي وأبو القاسم البلخي: (تصح توبته من ذنبٍ، وإن كان مُصرًّا على غيره) وهذا لا أصل له؛ لأن من اعتذر إلى زيدٍ في قتل ولده، وهو مع ذلك غير مقلعٍ عن ظلمه لا يكون معذوراً في قتله، وكذلك من امتنع من شرب الخل لحموضته فأكل أحماض الأترنج لا يكون مُمتنعاً من الحامض فصح أنه لا يكون تائباً ما دام مُصرًّا على معصية. والصغائر مع الإصرار تكون كبائر (وهو قول الناصر عليه السَّلام).(1/316)


باب حقيقة معرفة البلاء
وأصل البلاء الاختبار، وهو على أفنانٍ كثيرة.
فمنها بلاء التّعبدِ؛ وهو الأمر بفعل الواجبات، والنهي عن فعل المحرّمات، وفائدته أن يُعرِّض الله المتعبَّدين لثوابه، ويُخوّفهم من عقابه؛ قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً }[الملك:2]، فصح أن الدنيا دار بلاءٍ، وأن الحياة والموت بلاء.
ومن البلاء: النعم التي تفضّل الله بها على العباد، قال الله تعالى -حاكياً عن سليمان عليه السَّلام: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}[النمل:40]، وقال تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}[الفجر:15].(1/317)


ومن البلاء: التمحيص للعبد المؤمن قال تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ }[آل عمران:141]، وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[البقرة:155]، وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء:35]، وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ }[التغابن:15]، والفتنة من التمحيص. وقال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ }[البقرة:191]، وذلك لأن القتل في سبيل الله حسنٌ، والفتنة تمحيصٌ؛ قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ }[التوبة:52]، فسمّى الشهادة حسناً.(1/318)


ومن التمحيص ما ذكر الله تعالى من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات والأمراض؛ ونقصان الأنفس مثل الموت ونقصان الخلق. وقد يبتلي الله عبده بالفقر لينظر صبره، قال الله تعالى: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}[الفجر:16]، وقد رُوي أن في التوراة: (يا موسى إني لم أفقر الفقير بذنبٍ قدّمه إليَّ ولم أغن الغني بصنيعةٍ قدّمها إليَّ، وإنما أفقرتُ الفقير لأنظر صبره، وأغنيتُ الغني لأنظر شكره، يا موسى فلا الفقير صبر ولا الغني شكر). وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن المؤمن إذا أصابه السّقم ثم عافاه الله منه كان كفارةً لِمَا مضى من ذنوبه، وموعظةً له فيما يستقبل، وإن المنافق إذا مرض ثم عُوفيَ منه كان كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه، فلم يدرِ لِمَ عقلوهُ؟ ولِمَ أرسلوهُ؟ فقال رجل: يا رسول الله، وما الأسقام والله ما مرضتُ قط؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: قم عنّا فلستَ مِنَّا)). وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي عليه السَّلام: ((يا عليّ غمُّ العيال سِترٌ من النار ، وطاعةُ الخالق أمانٌ من العذاب، والصّبر على الفاقة جهادٌ، وأفضل من عبادة ستين سنةً)).(1/319)


وعن علي عليه السَّلام أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يقول الله عز وجل: أيما عبد من عبادي ابتليتهُ بِبَلاءٍ على فراشه فلم يَشْكُ على (أحدٍ) من عُوّاده أبدلته لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، فإن قبضته فإلى رحمتي، وإن عافيته فليس له ذنبٌ. قيل: يا رسول الله وكيف ينبت له لحمٌ غير لحمه، ودمٌ غير دمه؟ قال: لحم لم يُذنب)).
وعن أم العُلى قالت: عادني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا مريضة فقال: ((أبشري يا أم العُلى فإن مرض المسلم يُذهب الله به خطاياه [وسيئاته] كما تُذهب النار خبث الذهب والفضة)). وعن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((عِظَم الجزاء على عِظَمِ البلاء ، فإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رَضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)). وقال القاسم بن إبراهيم عليه السَّلام في المكنون: ولربما أدّب الله عبده بالفقر، وابتلاه بالعسر اختباراً له ليجعل له في عاقبة ذلك خيراً.(1/320)

64 / 115
ع
En
A+
A-