واعلم أنه يجب على تاجر الآخرة أن يكون على تجارته أشد حرصاً واجتهاداً من تاجر الدنيا على تجارته؛ لأن تجار الدنيا يجتهدون في تجارتهم، وينفقون فيها نفوسهم وأموالهم، ويسهرون الليل، ويخدمون، ويجوعون ويعطشون، ويخافون ويعرون، ويصبرون على ما قابلهم من الشرور والمحن.
ورأيناهم يُعْمِلُون أفكارهم فيما يُصلح تجارتهم، ويتدبرون عاقبة تجارتهم فإن علموا فيها ربحاً تقدّموا فيها، وإن علموا فيها خسراناً توقّفوا. وإذا ابتاع رجل منهم شيئاً بدينارٍ اجتهد في أخذ الجيِّد، واستشار فيه من يعرفه، واستنقده ولم يرضَ بنقَّادٍ واحدٍ.
فإذا كان هذا فِعَالَ تاجر الدنيا فتاجر الآخرة أحقّ بالحرصِ والاجتهاد وإعمال الفكر في سلامة رأس المال وحصول الرّبح. وكذلك يجب أن يكون اجتهاده في انتقاد دِينِهِ ومعرفة من يأخذه عنه أشدّ من اجتهاد تاجر الدنيا في استنقاد ديناره، وقد رُوي عن أنسٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن هذا العلمَ دِينٌ فانظروا عمن تأخذون دِينكم)).(1/311)
واعلم أن تاجر الدنيا يستكثر من التجارة التي يعلم أن له فيها ربحاً حتّى أنه لا يقنع بتجارته بنفسه حتى يستعين غيره يتّجر له، ويستأجر آخرين، ويشارك آخرين، حتّى يجتمع له الربح من مواضع كثيرة، فكذلك يجب على تاجر الآخرة أن يستكثر من الأرباح، ولا يقنع بالشيءِ منها بل يطلب المزيد عليه، كما فعل رجالٌ من عباد الله الصالحين، منهم الهادي عليه السَّلام فإنه لم يقنع بكثرة جهاده وهُداهُ للناس إلى الحق، واجتهاده، وصلواته وقيامه، وصدقاته وحجه وصيامه، ودعائه إلى رب العالمين، وإعزازه للمؤمنين، وإرغامه للفاسقين، ومباينته للظالمين، فلم يقنع بما فعل من البِرِّ في حياته حتى زاد أوصى أن يُتصدق عنه بعد وفاته؛ فإنه سأل بنيه وبني عمومته والصالحين من شيعته وأهل مودّته أن يتصدقوا عنه بعد مماته، ولا يستقل المتصدّق عنه شيئاً من حسناته، فعليه من الله أفضل سلامه وتحياته.
واعلم أن خير التجارة العلم والورع لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((فضل العلم خيرٌ من فضل العبادة ، وخير دينكم الورع)).
واعلم أن أشرف التجارة أكثرها تعباً مع الإخلاص لله لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أشرف الإيمان أن يأمنك الناس ، وأشرف الإسلام أن تُسْلِمَ الناس من يدك ولسانك، وأشرف الهجرة أن تهجر السيئات، وأشرف الجهاد أن تُقْتَل وتُعْقَر فرسُك في سبيل الله)).(1/312)
فصل في الكلام في التوبة
فإن التوبة من واجبات الشكر على (العبد) المذنب. والتوبة هي النّدم من فعل المعاصي، والمباينة للمعاصي، والإقلاع عنها، ورد المظالم إلى أهلها.
والتوبة على وجهين: توبة من كفرٍ. وتوبةٌ من فسقٍ.
فالتائب من الكفر لا يجب عليه قضاء فرضٍ، ولا ردُّ مظلمةٍ، لقول الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ }[الأنفال:38]، ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الإسلام يجب ما قبله )).(1/313)
وأما التائب من الفسق فإنه يقضي ما ترك من الفروض، كالصلاة، والزكاة، والصوم، وكفارة الأيمان، والنذور، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من نسي صلاةً أو نام عنها فليقضها إذا ذكرها)) وكذلك الزكاة، والصوم، وكفارة الأيمان، والنذور. فأما سائر حقوق الله فلا يجب على من ضيّعها قضاؤها إذا تاب، لقول الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الزمر:53]، ولقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}[الشورى:25]، ولقوله تعالى: {وَإِنّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى }[طه:82]، ولقوله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المائدة:39]. وروي عن علي عليه السَّلام [أنه] قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من قال: (أستغفر الله الذي لا إله إلا هو وأتوب إليه) غُفرت له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر ورمل عالج)).(1/314)
قال السيد أبو طالب: والمراد: يقوله ويضم إليه عقد القلب في الندم على ما كان منه، والعزم على ترك أمثاله. فأما حقوق الآدميين فإنه يجب عليه الخروج (إليهم) منها، فإن كان الحق في دمٍ أقاد نفسه للقصاص، وإن كان في مال قضاه من ماله، وإن كان في عِرضٍ سأله الحلَّ إذا اغتابه وبلغته الغيبة، وإن لم تبلغه لم يُعلِمْه وتاب إلى الله تعالى؛ ولأنه إذا أعلمه بشيءٍ لم يعلمه من قبلُ أدخل عليه الغم.
والغِيبةُ هي أن يتكلم على المؤمن في غيبته بما لا يتكلم في حضرته؛ يريد بذلك نقصه وإظهار عيبه، وهو أن يذكر منه ذنب فعله ويمكن أن يكون قد تاب منه فيُسميه باسمٍ قد خرج منه، وقد قال تعالى: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الحجرات:11]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[النور:19]، وإما أن يتكلم في المؤمن بما لم يفعل فذلك أكبر من الغيبة، وهو بُهتانٌ وافتراءٌ وإثمٌ عظيم لقول الله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ }[النور:15].
وأما الفاسقُ المصرُّ على فسقه فلا إثم في غيبته.(1/315)