فصل في الكلام في التجارة
واعلم أنه يجب على المؤمن أن ينظر فيما يُصلح دينه ودنياه ويزيد في علمه ويقينه فما حقّ عنده أو غلب على ظنه أنه أسلم لدينه فعل ما يمكنه فعله في الحال، ويَقْدِمُ لِمَا يُصلحه في المآل، كما أن التاجر ينظر فيما يبيع ويشتري فما علم أنه يربح فيه -أو غلب في ظنه- شَرَاه وكَسَبَه، وما كان يعلم -أو يغلب على ظنه- أنه يخسر فيه لم يشتره، ويتجنّبه؛ وكذلك يجب على المؤمن أن ينظر في دينه، فما كان يزيد في حسناته فعله وتقدم إليه، وما كان ينقص حسناته ويزيد سيئاته تجنّبه؛ ولأن الدين تجارةٌ قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[الصف:10،11]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}[الشورى:20].(1/306)
وقد دلنا الله تعالى على التجارة، وضمن لنا الربح؛ وأخبرنا بما يزيد في العمل ويُوجب الربح. وأخبرنا بما يُفسد عملنا ويبطل فعلنا. وأخبرنا باجتهاد الصالحين قبلنا في التجارة الربيحة. وأخبرنا بمن فسد عليه عمله فقال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا}[الأنعام:160]، وقال تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ }[التغابن:17]، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}[الحديد:11]، وقال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}[الحديد:7]، وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:261]، فأعطى الله عباده الثواب الجزيل، واستقرضهم بما أعطاهم القليل ثم ذخره لهم إلى وقت حاجتهم إليه، وكثّره لهم وزاد عليه.(1/307)
ثم أخبرنا بما يُبطل الصدقات فقال عزّ من قائلٍ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ}[البقرة:264]، وقال تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}[البقرة:266]. فمثّل الله تعالى من يكون له عملٌ صالح يستحقّ به الجنّة، فيبطله، بمن يكون له في الدنيا جنّةٌ من نخيل على ما وصف، فتُصيبها ريحٌ فيها نارٌ فتحرقها فاحترقت. وقوله تعالى: {وأصابه الكبر} يُريد أنه يكون يوم القيامة كمن أصابه الكِبرُ في الدنيا لا يمكنه أن يستعيض جنّةً أخرى. وقوله: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} يقول: إنه محتاج إليها كما يحتاج الشيخ الكبير الذي له ذرية ضعفاء إلى من يقوم به وبذريته.(1/308)
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}[الحجرات:2]، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:28]، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ً ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}[الكهف:103،104]. ثم أخبرنا بصفة الصالحين فقال تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[التوبة:112]، وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[الزمر:9].(1/309)
وقد مثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة بالتجارة؛ فكذلك سائر أعمال البِرِّ؛ فإنه رُوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لأمير المؤمنين عليه السَّلام: ((يا عليُّ مَثَلُ الذي لا يُتِمُّ صلاته كَحُبْلَى حبلت ، فلما دنى نِفاسها أسقطت، فلا هي ذات حملٍ، ولا ذات ولدٍ، ومثل المصلّي مثل التاجر لا يخلصُ ربحُهُ حتى يأخذ رأس ماله؛ كذلك المصلي لا تُقبل له نافلة حتّى يُؤدي الفريضة)) فصح أن الدِّين تجارةٌ.
ومما يدل على وجوب تدبر العاقبة فيما يستقبل فعله العبد: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي عليه السَّلام: ((عليك باليأس مما في أيدي الناس فإنه الغنى الحاضر))، فقلت: زدني يا رسول الله صلى الله عليك، فقال: ((يا عليُّ إياك والطمع فإنه الفقر الحاضر)) فقلت: زدني يا رسول الله صلى الله عليك، فقال: ((إذا هممت بأمرٍ فتدبّر عاقبته ، فإن يكُ خيراً فاتبعه وإن يك غيًّا فدعه))، ثم قال: ((يا عليُّ إن من اليقين أن لا ترضي أحداً بسخط الله ، ولا تحسد أحداً على ما آتاه الله، ولا تذم أحداً على ما لم يُؤتك الله فإن الرزق لا يجره حرص حريصٍ، ولا يصرفُهُ كراهة كارهٍ، إن الله بحكمه وفضله جعل الرَّوح والفرح في الرّضا، وجعل الهمّ والحزن في الشكّ والسّخط)).(1/310)