فأما الملائكة صلوات الله عليهم فإنهم لا يفتُرُون عن عبادة الله ولا ينسون، وقد حكى الله ذلك عنهم، فقال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ }[الأنبياء:20]، وقال تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ}[الشورى:5]، ولم يذكر عنهم أنهم يستغفرون لأنفسهم، وذلك أن الله تعالى قد خلقهم شِداداً أهل قوّةٍ، قال الله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى}[النجم:5،6]، وقال: {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم:6]، فوصفهم بالقوة والشِّدة، وعصمهم عن الغذاء والنّكاح، وخوف الخلق، فأمكنهم ما هم عليه من طاعة الله تعالى.
واعلم أنه لا يكون العبدُ شاكراً لربِّه حتى يكون مستصغراً لحسناته، مستعظماً لسيئاته، وذلك لكثرة نعم الله عليه، وعلمه بسره وجهره وقُدرته عليه. وقد رُوي أن أعرابياً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صفة المُحبيّن للرحمن، فأمر عليًّا عليه السَّلام أن يُخبره، فقال له عليٌّ عليه السَّلام: (يا بَادي خُذ عني صفة المحبين: عبد استصغر بَذْله في الله، واستعظم ذنبه، وظنَّ أنه ليس في السّماوات ولا في الأرض مأخوذٌ غيره) قال: فصعق الأعرابي، فلما أفاق قال: أخبرنا يا ابن أبي طالب: هل يكون في حالةٍ أحدٌ أعلا من هذا العبد؟ قال: نعم؛ سبعين درجة.(1/301)


ومما يدل على صحة ما قلنا: أنك لو عظّمت أجنبياً لا نعمة له عليك؛ أنه يستكثر منك النّعمة ويستعظمها، ويكون ذلك منك إليه عظيماً، وأنك إذا عظّمت والديك، أو عظَّم العبدُ سيّده أن ذلك يصغر عند الوالدين ويقلُّ من حقّهما، وذلك لكثرة نعمتهما عليك، وإحسانهما إليك، وكذلك السيّد يستصغر تعظيم عبده له، فإذا كان هذا معقولاً في الآدميين وجب على العبد أن يستصغر شكره لربِّ العالمين المنعم المتفضل ويستعظم ذنبه، ويخاف ربه، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ، إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ}[المعارج:27،28].
ومما يُكبّر المعصية ويُعظّمها أن العاصي لا يعصي إلا وهو في نعم الله، ألا ترى أنه لو مدّ زيدٌ يده إلى عمروٍ ليُعطيه عطيّة جزيلة يحتاج إليها ولا يستغني عنها، فمد عمروٌ يده ليلطم زيداً ألا ترى أن ذنبه كان عظيماً، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يقول الله تعالى: يا ابن آدم ما تنصفني أتحبَّبُ إليك بالنعم، وتتمقّت إليَّ بالمعاصي، وخيري إليك ينزل، وشرُّك إليّ صاعدٌ، ولا يزال ملكٌ كريمٌ يأتيني عنك في كل يومٍ بعملٍ قبيحٍ، يا ابن آدم لو سمعتَ وصفك من غيرك وأنت لا تدري مَنِ الموصوف لسارعتَ إلى مقته)). وروي عن بعض الصالحين أنه سئل عن الشكر فقال: ألاَّ تستعين بنعمةٍ من نعم الله على معصيةٍ من معاصي الله.(1/302)


فصل في الكلام في الهجرة
واعلم أن مِن شُكر المنعم الهجرة من أعدائه إلى أوليائه. فإن كان في الزمان إمام حقٍّ فالهجرة إليه، وإن لم يكن في الزمان -الذي يكون فيه المؤمن- إمام حقٍّ وجب عليه أن يهاجر من الظلمة والفسقة إلى حيث غلب في ظنه أنه ينجو فيه مما فرّ منه -إن أمكنه ذلك- وإن لم يمكنه فلا إثم عليه، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِي‍رًا ، إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ، فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ، وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِي‍رًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[النساء:97-100]، وقال الله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لاَُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ(1/303)


سَيِّئَاتِهِمْ وَلاَُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}[آل عمران:195]، وقال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[النحل:110].
واعلم أن الهجرة هي سُنّة الأنبياء صلوات الله عليهم، وقد حكى الله ذلك عنهم فقال -حاكياً عن إبراهيم عليه السَّلام: {وَقَالَ إِنّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ }[الصافات:99]، وقال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[العنكبوت:26]، وقال تعالى -حاكياً عن موسى عليه السَّلام: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِي‍رًا لِلْمُجْرِمِينَ }[القصص:17]، وقال لنبيئه صلى الله عليه وآله وسلم: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ }[الذاريات:54]، وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((خمسٌ لا يُعذر بجهلهنّ أحدٌ : معرفة الله سبحانه لا يُشَبِّهْهُ بشيءٍ -ومن شَبَّهَ الله بشيءٍ أو زعم أن الله يُشبه شيئاً فهو من المشركين- والْحُبُّ في الله، والبغض في الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتناب الظَّلمةِ)). وكذلك فَعَلَ الأئمة الهادون": هاجر أمير المؤمنين عليه السَّلام من المدينة إلى الكوفة. وهاجر القاسم عليه السَّلام إلى جبال الرّس. وهاجر الهادي إلى الحق عليه السَّلام إلى الغيل من(1/304)


صعدة، وغيرهم من الأئمة".(1/305)

61 / 115
ع
En
A+
A-