ابتداء دعوته
وقام بأثقال الإمامة أحمد .... سليل سليمان فلله بارع
يقول المؤرخ المعاصر أحمد محمد الشامي في كتابه (تاريخ اليمن الفكري): (كان ابتداء دعوته ـ وهو في الواحد والثلاثين ـ في بلاد الجوف، ونزح منها إلى جبل (برط) فبايعه بعض أهلها، ثم سار إلى (أملح) ثم إلى (نجران) في أوّل المحرم سنة 532هـ فبايعه أهلها، وظل يدعو الناس إلى الرشاد وينهى عما كان قد ظهر من الفواحش، ثم انتقل إلى (صعدة) وبعث رسله وعمّاله إلى بلاد وادعة وسنحان وخولان الشام، ثم إلى (صنعاء) وأعمالها، واشتهر أمره، وذاع صيته، وكان من أقوى الأصوات التي أيدته مؤلف (شمس العلوم) الشيخ العلامة الشاعر نشوان بن سعيد الحميري، وقد كان يخصه على النهوض من (صعدة) إلى البلاد الجنوبية التي يسمونها (اليمن)، وهي الأصقاع الجنوبية من صنعاء مثلما يسمّون ما شاملها (الشام) ومما قاله نشوان في ذلك:
دع (يرسماً) والمساني واقصد (اليمنا) .... فأفقر الناس من يا بن الكرام سنى
فأنت تصلح للرايات تعقدها .... وللمواكب تحيي الدين والسننا
وللمنابر تنشئ فوقها خطباً .... تُعيي اللبيب النجيب العالم الفطنا
ما كان جدك حرّاثا فتلحقه .... بل مرسل قد أتى بالوحي مؤتمنا
ما زال في عمره مستفتحاً بلداً .... أو قاسماً مغنماً، أو مالكاً مدنا(1/26)
وكم هي عجيبة بعض الصدف التأريخية التي يرتّبها القدر، وكأنّه يوقّعها لحناً سماوياً نغماته تسبي العقول، وتهزّ المشاعر، فقد قدّر أن تموت الملكة أروى بنت أحمد بن الصليحية في مدينتها (ذي جبلة) سنة 532ه وهي تناهز الثامنة والثمانين، وانتهى بموتها ملك آل الصليحي، كما أن الداعي سبأ ابن أبي السعود صاحب (عدن) مات في نفس العام، وتمزّقت أصقاع اليمن شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً شذر مذر، وقدّر لهذا الشاب التقي الشاعر حفيد الأئمة والشعراء، أحمد بن سليمان أن يصغي إلى صوت الواجب في ضميره ووجدانه، وأن يستجيب لدعوة الحجّة التي تلهج بها ألسنة علماء الزيدية وفقهائها، وفي مقدمتهم العلامة القاضي نشوان بن سعيد الحميري، فأعلن الدعوة لنفسه، وقد عاش بعد إعلانها، ومبايعة أهل الحل والعقد له إماماً، أربعة وثلاثين عاماً كلها جهاد وصراع وكفاح، وعرق ودموع، وشعر وتأليف، ومناظرات ومحاورات، وصداقات وخصومات، وأخيراً أَسر وسجن، ثم عُزْلة وعَمَى! لم يختزن مالاً، ولا بنى قصراً، ولم يخلف غير كتبه وأشعاره.(1/27)
صوت اليمن والإسلام
لقد كان صوت أحمد بن سليمان يمثل بحق (صوت اليمن) العربي المسلم بين ضجيج شظايا (آل نجاح) وحشرجات المماليك والعبيد، تحاصرهم وتطاردهم صرخات (ابن مهدي) الجبار الغشوم في (زبيد)، وتمتمات وزمزمات آل (زريع) في (عدن) و(زوامل) مشايخ (جنب) ترعب (ذمار) ومخاليفها، وأشعار وأراجيف (آل حاتم) تقلق (صنعاء) وأعمالها، حتى حدود بلاد الأهنوم، حيث (أولاد القاسم العياني وأحفاده) يتخطّرون في عناد، ما بين (شهارة) و(الشرفين) و(مسور)، ويتقارعون مع (آل أبي الحفاظ) سلاطين (حجور) و(أحفاد الهادي) في (صعدة) يتنابزون، و(الأشراف) في (المخلاف) يتشاجرون مع الجميع.
وصوت هذا الشاب العالم الشاعر الزاهد الشجاع يدوّي بين كل تلك (التشويشات) في صفاء ويقين وعزم وتصميم. لقد كان بحق (صوت اليمن) العربية المسلمة).
ويقول شيخنا السيد العلامة الحجة مجد الدين بن محمد ـ أيده الله تعالى ـ مترجماً للإمام أحمد بن سليمان عليه السَّلام: (اجتمع لديه من سلالة الوصي ثلاثمائة رجل من أهل البسالة والعلم، ومن سائر العلماء ألف وأربعمائة رجل، منهم: القاضي العلامة إسحاق بن أحمد بن عبد الباعث، المتوفى سنة خمس وخمسين وخمسمائة ـ رضي الله عنه ـ واستفاض على جميع اليمن، وخطب له بينبع وخيبر، وانقادت لأحكام ولايته الجيل والديلم، ودخل إلى جهات صعدة في قدر عشرين ألفاً من فارس وراجل.(1/28)
ومن ملاحمه العظام التي هدّ بها أركان الملحدين الطغام، وقعة في اليمن انجلت عن خمسمائة قتيل وخمسمائة أسير، وكانت خيله في هذه الوقعة ألفاً وثمانمائة فرس، وقد كان أشرف أصحابه على الهلاك، فمد الإمام يده إلى السماء، وقال: (اللهم إنه لم يبق إلا نصرك)، فأرسل الله عليهم ريحاً عاصفاً، فاستقبلت وجوه القوم، فحمل الإمام وحمل أصحابه، وانهزم أعداؤه، وقد أشار إلى هذه الوقعة الوصي عليه السَّلام وإلى الموضع الذي وقعت فيه).(1/29)
معاركه مع المتمردين
1ـ وقعة الشرزة
وهذه الواقعة التي أشار إليها شيخنا ـ حفظه الله تعالى ـ هي وقعة (الشرزة) التي وقعت سنة 552هـ وقد فصلها المؤرخ الشهيد حميد المحلي ـ رحمه الله تعالى ـ قال: (ومن أيامه عليه السَّلام الغرب المحجلة يوم الشرزة، وذلك أنه عليه السَّلام جمع ألفاً وثمانمائة فارس من قبائل يعرب، ومذحج، وجنب، وعنس، وزبيد، في شهر شعبان سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، ونهض حاتم بن أحمد من صنعاء بمن معه من همدان، وجنب، وسنحان، في تسعمائة فارس كلها معدة، وعشرة آلاف راجل فيها ثلاثة آلاف قائس، فلم يكن رحل الإمام عليه السَّلام إلا قليل؛ فرتب عليه السَّلام عسكره: الميمنة والميسرة، وكان في القلب ومن معه من الأشراف والشيعة، فتنازل الناس، وقاتل عليه السَّلام قتالاً شديداً وصار يقصده جماعة من الشجعان لأنه بغيتهم، فقال عليه السَّلام عند ذلك: (اللهم إنه لم يبق إلا نصرك)، وقال في نفسه: إن ظفر القوم اليوم بنا ظهر مذهب الباطنية وارتفع في جميع البلاد وهدم الإسلام والمسلمون، فعند ذلك أرسل الله تعالى ريحاً عاصفاً من الشرق، فقابلت وجوه أعدائه فاستبشر الإمام عليه السَّلام وقال: إنها ريحهم فاحملوا ثم حمل من نهجه، فانهزم القوم، فأعطى الله النصر ومنح القوم أكتافهم، فلم يزل الطرد فيهم والقتل الذريع حتى انجلت المعركة عن خمسمائة قتيل وخمسمائة أسير وقريب من ذلك، ولم تزل الهزيمة في همدان إلى صنعاء، ثم انهزموا من صنعاء وتغلقوا الحصون، وعاد الإمام عليه السَّلام بعسكره إلى محطتهم فأقاموا بها ليلتين، ثم تقدم الإمام عليه(1/30)