فصل في الكلام فيما يجب أن يعتقد بالقلب من الشكر
أما الشكر بالقلب فهو الاعتقاد والعلمُ؛ وهو أن تؤمن بالله، وتعرفه حقّ معرفته، وتنفي عنه كُلّ صفة نقصٍ في ذاته وفي أفعاله، وأن تؤمن بملائكته وكُتبهِ ورُسُلهِ ومن تخلّفهم من الأوصياء، والأئمة الأتقياء، واليوم الآخر، والبعث والحساب، والجنّة والنار، والتصديق بالوعد والوعيد، وخلود أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، وأن الله عدلٌ في جميع أفعاله، وأنه لا يكلف فوق الطّاقة، ولا يسلب مُكلَّفاً الاستطاعة ثم يعاقبه على ترك ما لا يطيق. وأن يعرف مُوجبات العلم وموجبات العمل، ويعلم علم الأصول وعلم الفروع.
واعلم أن مُوجبات العلم هي ما عرَّفنا الله ورسُولُهُ، وحكم به العقلُ من معرفة الله، ومعرفة الأصول التي ذكرنا ومعرفة الفروع أيضاً، ومعرفة طاعة الله، ومعرفة معصية الله، ومعرفة ما كان من قصص الأوَّلين، وما يكون في يوم الدين وأمثال ذلك. وموجبات العمل هو الأمر بفعل الطاعات، والنهي عن فعل المحرمات.
والأصول هي التي سمّيناها في كتابنا هذا وهي ثلاثة عشر باباً وهي: معرفة النّظر والاستدلال، ومعرفة الصّنع، ومعرفة الصّانع، ومعرفة التّوحيد، ومعرفة العدل، ومعرفة النِّعمة، ومعرفة شكر المنعم، ومعرفة البلاء، ومعرفة الجزاء، ومعرفة الكُتُب، ومعرفة الرُّسل، ومعرفة الإمامة، ومعرفة الاختلاف.(1/271)


ولولا معرفة الاختلاف لَمَا عُرفت الفرقةُ النّاجيةُ، ولا تحقق وأيقن صاحبُ الحقّ أنه مُحِقٌّ، فلمّا لم تكمل معرفة الأصول إلا به عُلِمَ أن معرفة الوِفَاقِ والخلاف هو أصلٌ من الأصول وهو سببُ الولاءِ والبَرَاء، ولولا ذلك لَمَا عُرفَ الوليُّ من العدوِّ.
واعلم أن هذه الأصول أجمع عليها جميعُ العلماء الصالحين من الملائكة والمرسلين "، ومن كافة المؤمنين. ولم يُنسخ منها شيءٌ ولا بُدِّل، قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ، ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[النحل:120-123]، وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}[الحج:78]، وقال تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}[الإسراء:3]، وقال تعالى عن نوح عليه السَّلام: {قَالَ يَاقَوْمِ إِنّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِي ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ(1/272)


ذُنُوبِكُمْ...}الآية[نوح:2-4]، وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}[الشورى:13]، وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِي‍رُ}[البقرة:285]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ...}الآية[المائدة:12]، وقال تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ...}[فصلت:43]، وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الأنعام:115]، وقال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}[الفتح:23]، فصحّ(1/273)


ما قلنا من أن هذه الجملة لم يُختلف فيها، ولم ينسخ منها شيءٌ، وليس يُقبل في هذه الأصول خبر الآحاد، ولا فيما ينقضها، مثل ما رَوَى أهل التشبيه وأهل القدر والغلاة وغيرهم ممن دَسّ في الإسلام ما ليس منه.
ومما يجب أن يُعتقد في القلب؛ موالاة أولياء الله، ومعاداة أعداء الله، وهو أن يعتقد حُبّ أولياء الله وبُغض أعداء الله، قال الله تعالى في صفة المؤمنين: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}[الفتح:29]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}[الممتحنة:1]، وقال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أو أَبْنَاءَهُمْ أو إِخْوَانَهُمْ أو عَشِي‍رَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[المجادلة:22].(1/274)


ومما يجب أن يُعتقد بالقلب: النيّة والإخلاص لله، والذكر لله، والصِّدق والاستقامة والخشوع لله في جميع العبادة، قال الله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ، أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}[الزمر:2،3]، وقال تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي }[الزمر:14]، وقال تعالى: {قُلْ إِنّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ، وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}[الزمر:11،12]، وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[غافر:14]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الأعمال بالنيّات ، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)).
وقال الله تعالى في ذكر الخشوع: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون:1،2]، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنه نظر رجلاً يعبث بلحيته في صلاته فقال: ((أما هذا لو خشع قلبُهُ لخشعتْ جوارحُهُ )). وقال الله تعالى في الصدق والاستقامة: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ، لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ}[الأحزاب:23،24]، وقال تعالى في الاستقامة: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[الأحقاف:13].(1/275)

55 / 115
ع
En
A+
A-