ومما نهى الله عنه: الخمر والميسر، ومما يدل على قبح الخمر وضره في الحال أن الإنسان يكون عاقلاً ثم يشرب الخمر فيسكر فيصير سكرانا لا عقل له، ولا يدري ما يُفعل به، فهل شيءٌ أضرُّ على الإنسان وأقبح من أن يُزيل عقل نفسه بعد أن أكمل الله له العقل؟! والميسر أيضاً يشغل عن الطاعات، ويدعو إلى الضّغناء والعداوات، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ}[المائدة:91]، فبيّن الله تعالى الحكمَ والعلّةَ، فصح أنه مستقبحٌ ضارٌّ في الحال والمآل.
ومثل ذلك: ما نهى الله عنه من أكل الميتة والدم والخنزير، فثبت أن الله نهانا عن [فعل] الخبائث، وصحّ أن الله ما أمرنا إلا بما يستحسنه العقلُ، وما نهانا إلا عمّا يستقبحه العقل، وهذا من تمام النعمة وكمال الرحمة، فالحمد لله الذي أسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً.
وأيضاً فإنه يمكن أن يكون فيما نهانا عنه أشياءٌ من المضار العاجلة لا نعلمها، ويؤيد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يغتسل الجنُبُ حتى يبول ، وإلا تردَّد فيه بقيّة المني، فكان منه داءٌ لا دواء له)). وفيما ذكرنا دليل على ما لم نذكر.
ومن تمام النعمة أن الله أمر عباده بما تستحسنه العقول، وينفع في الحال، ثم أثابهم وأعطاهم الأجر الكثير في الآخرة على فعله. ونهاهم عما يضرهم في الحال والمآل وتستقبحه العقولُ، وعاقبهم على فعله في الآخرة.(1/266)
ومن كمال النعمة أنه ما كلّف أحداً فوق طاقته بل أمر المكلَّفين بالإنفاق ورغّبهم فيه، ونهاهم عن الإنفاق الذي يضرّ بهم، فقال تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }[البقرة:195]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[الفرقان:67]، وقال تعالى: {لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا }[البقرة:286]، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]، فالحمد لله على نعمه عدد نعمه.(1/267)
باب حقيقة معرفة شكر المنعم
اعلم أن العقل الضروري يحكم بوجوب شكر المنعم، وأنّ شكر المنعم حسنٌ، وأن كفر النعمة قبيحٌ.
وفي الشاهد أن إنساناً لو أنعم على ملحدٍ وأحسن إليه أن الملحد يشكره ويُثني عليه، فثبت أن شكر المنعم في العقل واجبٌ.
والذي يدل على وجوبه من كتاب الله قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ}[البقرة:152]، وقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[البقرة:185]، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[البقرة:172]، وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[النحل:114]، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ}[النمل:73]، وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ }[سبأ:13]. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من أُودِعَ عُرْفاً فليشكره ، فإن لم يمكنه فلينشره، فإذا نشره فقد شكره، وإذا كتمه فقد كفره)).(1/268)
واعلم أن الكفر هو الجحد، وهو على وجهين: فكفرٌ بالله، وكفرٌ بنعمة الله، ومن لم يشكر الله فهو كافرٌ بنعمة الله، والكافر بنعمة الله فاسقٌ، وهو من أهل النار، وإن الشكر ضدّ الكفر، قال الله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}[الزمر:7]، وقال تعالى -حاكياً عن سليمان عليه السَّلام: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}[النمل:40]، وقال تعالى: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}[النحل:72]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا }[إبراهيم:28]، وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[إبراهيم:7]، وقال تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}[النحل:83]، وقال تعالى: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[البقرة:211]، وقال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ }[التكاثر:8].(1/269)
فصل في الكلام في حقيقة الشكر
اعلم أن أول ما يجب من شكر المنعم أن تعرف المنعم، وتعرف النعمة، فإذا عرفت المنعمَ والنعمةَ وجب عليك أن تعرف ما أمرك به وما نهاك عنه، وتعرف أولياءهُ فتواليهم، وتعرف أعداءه فتُعاديهم، فإذا عرفت هذه الجملة، وعرفت صدق الوعد والوعيد، وجب عليك أن تعمل بما أمرك (به) المنعمُ، وتتجنب ما نهاك عنه.
واعلم أن شكر المنعم على ثلاثة وجوه: اعتقادٌ بالقلب، وقولٌ باللسان، وعملٌ بالنفس والأركان.(1/270)