وأما معرفة الله ومعرفة الأصول والفروع، فإن النعمة العاجلة الشّرف والرّفعة التي جعلهما الله تعالى للعالِمِ، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِي‍رٌ}[المجادلة:11]، وأما النعمة العاجلة في الطهارة فإنه لولا التّطهُّر عن النجاسات والوضوء للصّلوات لكان الإنسان أقبح شيءٍ وأقذره.
ألا ترى أن من هجر الماءَ لسخافته وكسلِهِ وسقاطة نفسه أن ذلك يدلُّ من نظرهُ على دناءته وسخافته وكسله، وقد يتطهّر ويتنزّه كثيرٌ من الناس لِحُسْنِ التَّنزُّهِ وقبح النجاسة لا لرجاءِ ثوابٍ.
وفي التطهر أيضاً وجوهٌ من النفع العاجل:
منها أنه يفسح الصدر، ويُزيل الهمَّ، ويُظهر سيما الصّالحين، والنفعُ العاجلُ في الاغتسال من الجنابة أنه يشدّ الجسد، ويُذهب بالكلال، ويزيل النجس. وفيه نفاعة أخرى وهو لولا خوف مشقّة الاغتسال وخوف مُؤنته وكلفته لكان بعض الناس لا يكاد يفتر من الجماع في أكثر وقته، وكان ذلك يضرُّ بهِ، ويُضعف جسده.
والنفاعة العاجلة في الصلاة: أنها علامةُ المسلم، وأنها تَنْهى عن الفحشاء والمنكر، أي تنهى صاحبها عن فعل المنكرات، وتُجنّبه من الفواحش، قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}[العنكبوت:45].(1/261)


والزكاة نفعها الآجل للمُعطِي، ونفعُها العاجلُ للمُسْتعطِي.
والصّوم نفعه آجلٌ، ورُبّما كان فيه نفعٌ عاجلٌ، وهو أنه يُذلّ النّفسَ ويُقوِّي صاحبها عليها.
والحجُّ نفعه آجلٌ، وربّما كان فيه نفعٌ عاجلٌ لمن طلب الإجارة والتّجارة مع الحجّ، مثل أن يحجَّ لغيره بالأجرة إذا كان قد حجَّ عن نفسه، ومثل من يبيع ويشتري مع الحج إذا لم يكن البيعُ والشّراء أكثر همّه.
وبِرُّ الوالدين وصلة القرابة، فالنّفع العاجل فيه ظاهرٌ للوالدين والأقربين، وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيْدُ فِي الْعُمْرِ )).(1/262)


والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نفعه العاجل عامٌّ لجميع الناس، قال الله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ ...}الآية[الحج:40]، فمن تمام النعمة أن الله أمر بما يستحسنه العقلُ، وينفع في العاجل، ثم وعد عليه الثواب الآجل، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}[المائدة:3]، وقد رُوي عن كميل بن زياد النخعي، قال: قال أمير المؤمنين عليه السَّلام: (يا سبحان الله ما أزْهدَ كثيراً من الناس في الخير، عجبتُ لرجلٍ يأتيه أخوه المسلم في حاجةٍ فلا يَرَى نفسه للخير أهلاً، فوالله لو كُنّا لا نرجو جَنَّةً ولا ثواباً، ولا نخشى ناراً ولا عقاباً لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق فإنها تدلّ على سبيل النجاة)، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، أسمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم وما هو خير منه: لما أتي بسبايا طي وقعت جاريةٌ حَمْيَا، حّوَّا، لَعْسَا، لَمْيَا، عَبْطَاء، شَمَّاء الأنفَ، معتدلة القامة، دَرْمَا الكعبينِ، خدلجة السّاقين، لَفَّا الفخذين، خميصة الخصرينِ، مُضمرة الكشحين، فلمّا رأيتها أُعجبتُ بها، وقلتُ: لأطلبنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعلها في فيئيِ، فلمّا تكلمتْ نسيتُ جمالها لِمَا سمعتُ من فصاحتها، فقالت: يا محمد إن رأيتَ أن تُخلِّي عَنِّي ولا تُشمت بي العرب فإني ابنةُ سُراة قومِي، كان أبي يفُك العاني، ويُقوِّي(1/263)


الضّعيف، ويُقرئ الضّيف، ويشبع الجائع، ويفرج عن المكروب، ويُطعم الطعام، ويُفشي السّلام، وما ردَّ طالبَ حاجةٍ قط، أنا ابنة حاتم الطائي. فقال النبيء صلى الله عليه وآله وسلم: ((هذه صفاتُ المؤمن ، لو كان أبوكِ إسلاميًّا لترحَّمنا عليه، خلّوا عنها، فإن أباها كان يُحبّ مكارم الأخلاق، والله سبحانه يُحِبُّ مكارم الأخلاق)). فقام أبو بردة فقال: يا رسول الله، الله يُحبُّ مكارم الأخلاق؟ فقال: ((نعم، يا أبا بردة، لا يدخل أحدٌ الجنّة إلا بِحُسنِ الخُلُق )). فصحّ أن الله ما أمر إلا بمكارم الأخلاق.(1/264)


فصل في الكلام في أن الله نهى عن فعل ما يستقبحه العقل ويضرّ في الحال والمآل
فمما نهى الله عنه الظلم. والظلمُ مما يستقبحه العقل ويضرّ الظالم والمظلوم في الحال والمآل.
ومما يدل على أن الظلم قبيحٌ: أنك تستقبح أن يظلمك غيرُك ويضرُّك ذلك في الحال، فكما أنه قبيحٌ من غيرك كذلك هو قبيحٌ منك.
واعلم أن الظلم على وجهين: فظلمٌ يَظلِمُ العبدُ فيه نفسه لا غيرها. وظلمٌ يظلم فيه نفسه وغيرها من المخلوقين.
فأما الظلم الخاص من نفسه لنفسه فهو معصيته لربه، مثل كفر الجحود، وكفر النعمة، وقلة الصبر على البليّة، وترك العمل بالطاعة، وما جَرَى مجرى ذلك، فهذا ظلمٌ لقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }[لقمان:13]، ولم يظلم به إلا نفسه. وقال الله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }[النحل:118].
والظلم الثاني الذي يظلم فيه نفسه وغيره من المخلوقين فهو ما نقّص به غيره من المخلوقين من عِرْضِهِ ـ كالغيبة ـ أو مَالِهِ ـ كالغصب ـ أو دَمِهِ ـ كالقتل والجرح ـ أو حقِّه ـ كترك معاونة من أُمِرَ بمعاونته، فهذا الظلم وأمثاله مما يضرُّ به مخلوقاً، فإنه فيه ظالمٌ لنفسه ولمن ضرّه، فصحّ أن الله نَهَى عمَّا يُستقبح ويَضرُّ في الحالِ والمآلِ.
ومما نهى الله عنه: الزنا، ومما يدل على قبحه ومضرته في الحال أنك تكرهه وتستقبحه من حرمتك، ويضرك ذلك في الحال، فكذلك حرمة غيرك.(1/265)

53 / 115
ع
En
A+
A-