ومنها: أنه دليلٌ على الموت، ومُشبهٌ بهِ، ومذكِّرٌ بالموت، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الزمر:42].
ومما فطر الله عليه المكلّف: استحسان الحسنِ واستقباح القبيحِ، وهو العقل الغريزي، وهو عطيّة من الله ونعمةٌ من أعظم النعم والعطايا، ولولا هو ما عُرفَ المنعمُ ولا عُرفت النِّعم، وهو حُجّةُ الله على عباده.
وفطرهم على السمع والبصر، قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل:78]، فجعل الله لهم السمع يسمعون به الأصوات والمسموعات؛ وجعل لهم البصر ينظرون به الألوان والهيئات. وجعل لهم الأفئدةَ يعقلون بها المعلومات، فكان من الله الآلة، والإنسان مستعملٌ لها، وحُجّةُ الله هي الآلة والاستطاعة، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِي‍رُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا }[الحج:46]، فدلّ على أن العقل غيرُ القلب، كما أنك تقول: لك يدانِ تبطش بهما، ورجلانِ تمشي بهما، وسيف تضرب به. فصحّ أن الضرب غيرُ السيف، والبطشَ غيرُ اليدينِ، والمشيَ غير الرِّجلينِ، فكذلك العقل غير القلب.(1/256)


ومما أنعم الله به على العبد: اللسان المترجم للقلب، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}[الروم:22].
والكلام عندنا هو إلهامٌ من الله، والدليل على ذلك أن الله عدّهُ من آياته، ولولا هو إلهام منه لما عَدَّه من آياته، وأيضاً فإن الطّفل ينطق باسم أبيه وأمه قبل أن يتلقّن مثله، وكذلك سائر الكلام، أعني معرفة أسماءِ الأشياءِ. وقول أبي علي من المعتزلة مثل قولنا. وقال أبو هاشم: معرفة الأسماء اصطلاح اصطلح عليه الناس.
ومما فطره الله عليه الشّهوةُ، والنِّفار، والكراهة، والفرح، والسرور، والغم، والخوف، والأمْنِ، والجوع، والشِّبع، والجهل، والعلم الضروري، والذِّكر، والنِّسيان، وهذه كلُّها موجودةٌ في الإنسان، فطره الله عليها. وكذلك استعجال الخير وأشباه ذلك؛ فهذه كلُّها نِعَمٌ من الله وإحسانٌ.(1/257)


ومما يدل على أنها كلها نعمٌ؛ أن أَدْوَنَهَا وأضعفها النّسيان، فإن الإنسانَ لو كان لا ينسى لكان ذلك مؤديًّا إلى تنغيص النعمة في كل وقتٍ وحينٍ؛ لأنه لو كان يذكر المصائب ولا ينساها، ويذكر الموت ولا يجهل وقت هجومه عليه في كل وقتٍ لَمَا طابت له نعمةٌ، ولا فارقه همُّ ولا غمٌّ، وكان ذلك سيشغله عن كثيرٍ من الأعمال المباحة والمستحبة، ولَربما أيضاً دعاه ذلك إلى الحزن المؤدي إلى الموت أو العمى، فقد عَمِيَ يعقوب عليه السَّلام من شدة حزنه على ولده يوسف عليه السَّلام قال الله تعالى حاكياً قول يعقوب عليه السَّلام: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}[يوسف:84].
والدليل على أن الله فطر الناس على الجهل؛ أن الإنسان يولد جاهلاً، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا }[النحل:78]، وقال تعالى: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }[العلق:5]، وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ}[النحل:9]، أراد: وعلى الله تبْيينُ قصد السبيل. وقال تعالى: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ}[الأنبياء:37]، أراد: فطر الإنسان على استعجال الخير؛ لأن العجلَ فِعْلُ المستعجلِ، ولم يُرِدْ أنه خلق الإنسان من فعله الذي هو العجلُ. وليس قولنا: إن الله تعالى فطره على شيءٍ من فعله، بمعنى أنه جَبَرَهُ، ولكن المراد به: أن الله جعل له داعياً إلى ذلك للنعمة والبليّة.(1/258)


فمنها: الحاجة الداعية إلى فعل الشيء كالجوع والشّهوة وأمثال ذلك.
ومنها: إلهامٌ من الله تعالى كاستحسان الحسن، واستقباح القبيح، وذلك هو أصل الدّين الصحيح، قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}[الروم:30].(1/259)


فصل في الكلام في أن ما أمر الله به العبد فهو له نعمة
اعلم أنه لا يُؤمر العبدُ بأمرٍ إلا وله فيه نعمةٌ، عاجلة أو آجلة، أو عاجلة وآجلة.
فمن النعمة العاجلة الأمر بالمباح كقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ }[البقرة:57]، وقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا }[البقرة:60]، وكقوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ }[البقرة:222]، وكقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}[الجمعة:10]، وكقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا }[المائدة:2]، فهذا الأمر ليس بمُوجبٍ وإنما هو مُبيحٌ بالإجماع. ونفعُهُ عاجل.
والأمر الذي فيه نعمةٌ عاجلةٌ وآجلةٌ، وهو واجبٌ، فهو أكثر الأمر بالعبادة، وهو معرفة الله تعالى حقّ معرفته، ومعرفة أصول الدين وفروعه، والطهارة والصلاة، وبر الوالدين، وصلة القرابة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وموالاة أولياء الله، ومعاداة أعداء الله، وأمثال ذلك، فإن الأمر بهذه الفرائض نعمةٌ من الله، وللعبد في فعلها نعمةٌ عاجلةٌ ونعمةٌ آجلة. أما النعمة الآجلة في التطهر فثواب الله، وأما [النعمة] العاجلة فالتطهر من النجاسات، والتنزه عن المنكرات.(1/260)

52 / 115
ع
En
A+
A-