ومنها أنه لو كانت المعائش كذلك، وكان الإنسان يأكل من حيث توجّه لأدى ذلك إلى البطنة والتُّخَمِ، وكان أسرع لهلاك الناس.
وقد قال بعض أهل الطب: إن إدخال الطعام على الطعام هو الذي أهلك البريّةَ، وقتل السباع في البرية.
ومنها أنه لو كان الرزق موجوداً بغير سببٍ لم يكن له في قلوب الناس محبّةٌ كمحبتهم لما يكسبون. والقليلُ أيضاً من المال محبوبٌ، وقد أنزل الله على بني إسرائيل المنّ والسّلوى فلم يصبروا عليه، وسألوا موسى عليه السَّلام أن يدعو ربّهم أن يبدلهم به ما هو دونه، فقال تعالى -حاكياً قولهم: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}[البقرة:61].
ومنها أن اكتساب الرزق في الدنيا دليلٌ على الآخرة، فكما أنّ الدنيا يحصل الرزق فيها بالاكتساب والطلب، كذلك الآخرة لا تحصل للمكلفين إلا بطلب واكتسابٍ، فصح أن ذلك نعمةً من الله وحكمةً.
ومما خوّل الله الإنسان: الأكنان والبيوت التي يسكنها ويأمن فيها من الخوف والحرِّ والبرد والمطر.(1/251)
ومما خوّل (الإنسان): اللباس ليستُرَ به سوأته، وليتجمّل به، والجُنن ليتقي بها من البأس، وقد ذكر الله هذه النعم فقال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ، يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}[النحل:80-83]، وقال عز من قائلٍ: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ، وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ، وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا(1/252)
جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ، هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ، وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ، أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[النحل:3-18].(1/253)
فأخبر الله بجُملٍ من جزيل نعمه ثم أخبر أنها لا يُحصى لها عدد. وتبيين ذلك: أن كل ما تقلّب فيه المكلّف، وما أعطيَ من النعم التّوام، والأيادي الجزيلة الجسام، لو أراد أن يَعُدّ تكرار نعمةٍ واحدةٍ مما أعطي، ما قدر على عدِّها وهي النّفَس، وما أحسب أنه يقدر (أن) يَعُدّ أنفاسه يوماً وليلةً، وإذا لم يقدر على ذلك، كيف يقدر على عدّ أنفاس عمره، وإذا لم يقدر على عد أنفاسه، وهي نعمة واحدة فكيف يعد النعم كلها، قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}[النحل:53].
ومما أنعم الله به على المكلف: الكتاب والرسول، قال الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}[آل عمران:164]، وقال تعالى: {آلم ، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ، هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ}[لقمان:1-3].(1/254)
فصل في الكلام في ما فطر الله عليه العبد
اعلم أن الله (قد) فطر الحيوان (كله) على استجلاب المنافع العاجلة، والنِّفار عن المضار العاجلة، وفطر بعض الحيوان على الحاجة إلى الأكل والشرب والنوم والجماع. وجعل للحيوان آلة يبلغ بها الأشياء رحمةً منه ونعمةً؛ وجعل ذلك سبباً لحياته -وهي أفعالُ الحيوان- وليس لله فيها فعلٌ غيرُ الإلهام، والاستطاعة التي أعطاه على فعل هذه الأشياءِ، والحاجة الداعية إلى فعل الأشياء إلا النوم فإن الحيوان مضطرٌ إليه، وليس له فيه إلا التّعرُّض له، وهو عرضٌ ضروريٌّ يُغشيه الله الحيوان. ومما يُبيّن لك أنه ضروريٌّ أن الإنسان قد يُريد أن ينام ويتعرض لذلك في بعض الأوقات فلا يحصل له النوم، وقد [أيضاً] يغشيه الله النوم ويُريد أن لا ينام فلا يتم له ذلك في بعض الأوقات ويغلبه النوم، فصحّ أنه ضروريٌّ، قال الله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ }[الأنفال:11]، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ }[الروم:23]، فلو كان اختياراً للعبد لم يكن آيةً من آيات الله.
واعلم أن فيه منافع للعبد، ونِعَماً من الله سبحانه وتعالى.
منها: الاستراحة والسُّلوُّ.
ومنها: السُّكون لهضم الطعام.
ومنها: أنه يشغل كثير من الناس عن المآثم والفساد.(1/255)