بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[فصلت:36]، وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }[النحل:98]، وقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } إلى آخر السورة.
وقد جاء عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم ما يُوافق الكتاب، من الأمر بالتعوذ من الشيطان الرجيم. وروي عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن هذه الحشوش محتضرةٌ فإذا دخل أحدُكُم فليقل: اللهم إني أعوذُ بكَ من الخبث والخبائث)). وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلو بامرأة ليست له بمحرمٍ ، فإن ثالثهما الشيطان)). وعن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا يزال إبليس هائباً مذعوراً من المؤمن ما حافظ على الصلوات الخمس، فإذا ضيعهنّ تجرأ عليه فألقاه في العظائم)). وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن الشيطان ليأتيَ أحدكم فينفخ بين إليتيه فلا ينصرف حتى يجد ريحاً أو يسمع صوتاً)). وروي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام أنه كان إذا دخل المخرجَ قال: ((بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الرِّجس النجس، الخبيث المُخْبثِ، الشيطان الرجيم)).(1/241)


وقولنا: إن الشيطان يستدلُّ إذا نظر في وجه الإنسان على ما في قلبه؛ ومثل ذلك قد يعرفه أهلُ الفطنة من الناس في الغضب والرضا؛ وقد قال الله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}[الحج:72]، فلولا أن الإنسان يمكنه الامتناع من الشيطان وإضلاله لما أمر الله بالتعوذ منه. وقد يمكن أن يكون إضلال الشيطان للإنسان بالإرسال من الله والتّخلية، عقوبةً للإنسان على معصيته، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً}[النساء:137]، وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}[الزخرف:36،37]، ويُحمل على هذا المعنى قول الله تعالى: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ }[النمل:4]، والعَشوُ هو المسير في غير الطريق، قال الشاعر:
متى تأتهم تعشو إلى ضوء نارهم

تجد خير نار عندها خير موقد(1/242)


باب حقيقة معرفة النعمة
اعلم أنه لما ثبت أن المنعم حكيمٌ، وثبت أنه لا يفعل قبيحاً، ثبت أن إظهار الحسن وإيجاده حسنٌ، وإذا ثبت أن إيجاد الحسن حسنٌ، وثبت أن الله لا يفعل قبيحاً، ثبت أن إيجاد الله للعالم حسنٌ.
ولما ثبت أن الله غنيٌّ عن العالم، ثبت أنه لم يخلقه لنفسه بل خلقه لعباده نعمةً منه وتفضلاًّ، فصح أن الله خلق العالم نعمةً وتفضلاً، وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[الذاريات:56-58]، فبيّن أنه ما خلقهم له، وأخبر أنه غنيٌّ عنهم، وكذلك هو غنيٌّ عن عبادتهم ونفعها لهم لا له، فلما أمرهم بالعبادة وأعطاهم الاستطاعة عليها قَبْلَ وجوب الأمر؛ ثم أثابهم عليها وضاعف لهم الثواب، صح أن التعبد نعمةٌ وتفضُّلٌ منه ابتدأ الله به عباده المكلفين، فصح أن الله ما خلق الخلق إلا نعمةً وتفضلاً على عباده، فكان إظهاره للحكمة ابتداءً منه بالنعمة.
واعلم أنه لا يوجد شيءٌ من خلق الله إلا وفيه نعمةٌ لبعض خلق الله، تفضّل الله بها عليه؛ وكذلك لا يُفْطَرُ العبد على فطرةٍ إلا وفيها له نعمةٌ من الله تعالى، ولا يُؤمر بأمرٍ إلا وله فيه نعمة، ولا يُنهى عن فعل شيءٍ إلا وفي تركه له نعمةٌ معجّلة أو مؤجّلة.(1/243)


فصل في الكلام فيما خلق الله من النعم
من ذلك خلق الهواء، وما جعل الله فيه من السَّعة والصفاء، وكونه مكاناً للكبير والصغير من الحيوان والجماد؛ وما جعل الله فيه للعباد من المنافع والمصالح والمواد. وجملة الأمر أن من فارق الهواءَ ماتَ، وبانت عنه عند مفارقته الحياة؛ فصح أنه نعمة من النِّعم الكبار، على الكبار من الحيوان والصغار.
ومن ذلك خلق السماء، وسعتها، وبُعدها، وموافقة لونها للأبصار. وما جعل الله فيها من الأفلاك والشمس والقمر والنجوم لصالح الحيوان، وقد قدّمنا الكلام فيها، فهل هي إلا من النعم الجسام؟!
ومن ذلك خلق السحاب المسخّر بين السماء والأرض، وما فيه من المنافع والمصالح [والنعم] الجسام.
ومن ذلك [خلق] الرّياح وتسخير الله لها بين السماء والأرض ليثير بها السحاب وتصلُح بها الأجساد والأشجار، ويزيل بها من الهواء العُفُوناتُ والغبارُ، فهل هي إلا من النعم الجسام؟!
ومن ذلك خلق الأرض وما جعل الله فيها من الطُّول والعرْض. وجعل جبالها أوتاداً لأن لا تميد بأهلها. وجعل الإنسان مُخَوَّلاً لحزنها وسهلها. وبثّ فيها من كل دابَّةٍ، وجعل فيها من الفواكه والكروم والزروع والنخيل والأعناب، وصنوف المعايش والأرزاق؛ وجعل ذلك مادّةً ونعمةً للإنسان.(1/244)


ومن ذلك خلق الإنسان فإن الله خلقه من طينٍ، وجعل نسله من سلالةٍ من ماءٍ مهين، ثم نقله في بطن أمه من حالةٍ إلى حالةٍ، ثم أحدث له رزقاً في ثدي أمهِ لَبَناً خالصاً سائغاً موافقاً للطفل، ثم أحدث الله له الرّحمة في قلب أمه وقلبِ أبيه رحمةً من الله ونعمةً. فإذا علم الله أنه قَوِيَ على أكل الطعام أحدث الله له أسناناً وأضراساً. ولما علم الله أن البهائم لا تقدر على ما يقدر عليه الناس من تربية أولادهم؛ جعل أولاد البهائم بخلاف أولاد الناس؛ فإن البهيمة تلد ولدها، وقام من ساعته يطلب ضرع أمه. وقد فطره الله من وقت ولادته على اجتلاب المنافع والنفار عن المضار رحمةٌ من الله ونعمةً وسبباً لحياة المولود. ثم أنعم الله على العبد بنعمٍ كثيرةٍ لا يَحصي عددها في نفسه؛ فجعل له عينين، ولساناً وشفتين، وأنفاً وأذنين، ويدين ورجلين، وغير ذلك من الآلة والبنية المخصوصة. وطُرُق ما يدخل مما يتغذى به، وطُرُق ما يخرج. وجعل له نَفَساً يستنشق به الهواء، وهو سببُ الحياةِ والنماء. وجعل له طريقاً أجوف مفتوحاً لا ينطبق وهو الحلقوم؛ وذلك لضعف النّفس وكثرة تتابعه. وجعل للطعام والماء طريقاً مُنطبقاً -وهو الْمَرِىّ- ينفتح بالماءِ والطعام. وجعل المعدة مُستقرًّا للغذاء، وجعل صفوه ينقسم على جميع الجسد والأعضاء. وجعل المخارج ترمي بالثفل والأذى.(1/245)

49 / 115
ع
En
A+
A-