وأما إغواء الشيطان وإضلاله للإنسان، فقد يكون الإغواءُ والإضلال من شياطين الإنس ومن شياطين الجن.
فأما شياطين الإنس فذلك ظاهر بَيِّنٌ. وأما شياطين الجن فقد يكون بالمقاربة والمداناة من غير مباشرة، ولا ممازجةٍ، ولا مخالطةٍ، ولا كلامٍ. وقالت الحشوية: الشيطان يمازج الإنسان، ويدخل في صدره ويُخالطه.
فنقول: لو كان يُمازجه كما يقولون لكان الإنسان غير مخيّرٍ، ولا مُمَكّنٍ، ولو كان غير مخيّرٍ ولا ممكّنٍ لكان الله قد كلفه ما لا يطيق، وقد قدمنا الاحتجاج عليهم، ولو كانت نفسٌ تدخل في صدر نفسٍ وتمازجها وتشاركها في فعلها لكان ذلك من أقبح ما يكون، والله بريء من فعل القبيح وقد قال الله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ }[الحجر:42]، وقال تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً}[النساء:83]، وقد قال الله تعالى حاكياً ما يقول إبليس يوم القيامة: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ...}الآية[إبراهيم:22]، ويوم القيامة موضع صدقٍ، وليس كقوله في الدنيا: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي }[الأعراف:16]، لأنه في الدنيا يمكنه الكذب، ويوم القيامة لا يقبل منه الكاذب، ولا يُقر عليه، ولا يصدقه أحدٌ، ولا ينتفع بالكذب في شيء، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ(1/236)
اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}[المجادلة:18]، يقول: يحسبون أن الكذب ينفعهم في شيءٍ، وأنهم يُصدقّون كما كانوا إذا حلفوا في الدنيا صُدِّقُوا. فصح أن الشيطان ليس له سلطان على المؤمنين قال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}[النحل:98ـ100]، فصحّ أنه ليس له إحسان في الدخول في صدر الإنسان. وقال الله تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا }[النساء:76]، فثبت أنه ليس له قوّةٌ على الإنسان ولا له حيلة في الدخول في صدر الإنسان، فبطل ما قالت الحشوية.(1/237)
واعلم أن الأمة مجمعةٌ على أن الشيطان يُضل الإنسان؛ وقد نطق بذلك القرآن. واختلفوا في كيفية إضلاله. فقالت الحشوية: بالممازجة، وقد قدّمنا الكلام والاحتجاج عليهم. وعندنا أن إضلاله بمعنى المداناة للإنسان والمقاربة؛ ولأنه يعرف في وجه الإنسان ما يدلّ على ما في قلبه، فيدنو منه إذا علم منه المعصية وهو من جنس النفس؛ لأن النفس تدعو إلى الشهوات، وهو والنفس ضدّان للعقل، فإذا اجتمع ضدّانِ على ضدٍّ لهما واحدٍ كادا يغلبانه إلا أن يكون قويًّا. ألا ترى أن إنساناً لو كان في بعض جسده جرحٌ، ويكون ذلك الجرح مما حدث من الحرارة ثم يدنوا من النّار ولا يُماسها أنه يجد حرَّ النار في الجرح، ولا يجده في سائر جسده، وذلك لاجتماع حرارة الجرح وحرارة النار، فكذلك إذا دنا الشيطان من الإنسان توافَقَ هو والنفس، وذلك فليس بأمر من الله ولا جبرٍ. وقد جعل الله للمكلف عقلاً يغلب به النّفسَ والشيطانَ إذا استعمله، فإذا أهمل عقله، وأرخى نفسه، وتبع هواه، كان الشيطانُ في حكم الغالب عليه، قال الله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[المجادلة:19]، وقال الله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ(1/238)
لاَ يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:27]، وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ }[الأنعام:121]، وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[يس:60]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}[يس:62]، وقال تعالى حاكياً عن موسى عليه السَّلام: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}[القصص:15]، وقال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[الأنعام:68]، وقال تعالى حاكياً عن صاحب موسى: {وَمَا أَنْسَانِيه إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ }[الكهف:63]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رسول وَلاَ نَبِيّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ(1/239)
اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الحج:52-54]، ومعنى {تَمَنَّى} قرأ. وتأويل {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} المراد به في قراءته، وليس المرادُ به أنه يُلقي في قلب الرسول ولا على لسان الرسول، ولكن المراد (به أنه) يُلقي في قراءة بعض من يقرأ ما يأتي به الرسول، وذلك الإلقاءُ مِثْلُ الغلط والنِّسيان، والزيادة والنقصان. وقد سئل القاسم بن إبراهيم عليه السَّلام عن تأويل هذه الآية فقال: تأويل {تَمَنَّى} هو قَرَأَ، وتأويل {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} تأويله ألقى الشيطان في قراءته. وقراءته ( عليه السَّلام) هو ما ألقى من القرآن إلى أمته، وإلقاء الشيطانِ فيما يقرؤون من آياته هو إلقاءٌ من الشيطان في أمنيته وقراءته. والإلقاء في القراءة من الشيطان ليس إلقاءً في قلب الرسول، ولا فيما جعله الله له من اللسان، ولكنه إلقاءٌ في القراءة من الشيطان، بزيادةٍ منه في القراءة أو نقصانٍ. وقد رأينا نحن في دهرنا هذا بين من يقرأ آيات القرآن اختلافاً كثيراً في الزيادة والنقصان، فما كان من ذلك صدقاً وحقًّا فمن القرآن، وما كان منه كَذِباً وباطلاً فهو من الشيطان. وفي أيدي الروافض والغلاة من ذلك ما قد سمعتَ وسمعناهُ. وقد أمر الله نبيئه صلى الله عليه وآله وسلم بالاستعاذة من الشياطين وهمزاتهم فقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}[المؤمنون:97،98]، وقال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ(1/240)