والثالث: هُدَى زيادةٍ في الثواب في الآخرة، وتوفيقٍ وتسديدٍ في الدنيا، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ}[محمد:17]، وقال تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[النور:38]، وقال تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ }[التغابن:11]، فصح أن الزيادة على الأجر تُسمَّى هُدىً. وقوله تعالى: {وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} يريد ثوابهم.
فأما التوفيق والتسديد في الدنيا فهو مثل قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ، فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً}[الحجرات:7،8]، فبيّن أنه فضلٌ، والفضل غير الجزاءِ.(1/231)


وأما الإضلال من الله تعالى، فلا يكونُ من الله تعالى إضلالٌ لأحدٍ، إلا أن يكون جزاءً على معصيةٍ، قال الله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِي‍رًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِي‍رًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ، الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[البقرة:26،27]، وقال تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[آل عمران:86]، وقال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[المطففين:14]، فصحّ أن الإضلال من الله جزاءٌ للفاسقين على فسقهم. ويؤيد ذلك قول الله تعالى: {وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الأنعام:110]، وكذلك الطبع والختم بكونان أيضاً من بعد الكفر والفسق جزاءً لهم على كفرهم وفسقهم، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:6،7]، وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ(1/232)


أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}[محمد:16]، فدلّ على أنه جزاؤهم لاتباعهم أهواءهم.
وقد ذكر بعض مشائخ المعتزلة: أن الطبع والختم سمةٌ وعلامةٌ جعلها الله في قلوب الكافرين والفاسقين يعرفهم بها الملائكة "، قالوا: لأن الختم والطبع في الشاهد لا يمنع من الكسر.
وقال سائر المعتزلة: الإضلال من الله حكمٌ، وكذلك الختم والطبع، وأنشدوا عليه قول الكميت بن زيد:
وطائفةٌ قد كفَّروني بجمعهم

وطائفةٌ قالوا مسيءٌ ومذنبُ

ومما يدل على أن الهداية من الله جزاءٌ، وأن الإضلال من الله جزاءٌ ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ألا إنه من زَهَدَ في الدنيا وقصّر فيها أمَلَهُ أعطاه الله علماً بغير تعلّمٍ، وهُدىً بغير هدايةٍ، ألا ومن رغب في الدنيا وأطال فيها أمله أعمى الله قلبه على قدر رغبته فيها)).
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه من أن الإضلال من الله لأعدائه هو الجزاءُ على عصيانهم قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ ، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ}[القمر:47،48]، فصحّ أن الإضلال هو العذاب، وهو جزاءٌ لهم بما فعلوا.(1/233)


وأما قول الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}[الأنعام:125]، فالمراد به ما ذكرنا من الجزاء، والزيادة في الدنيا للمؤمنين من سعة الصدور، واليقين والرحمة للمؤمنين.
ومن كفر أو فسق، وعَنَدَ عن الحقّ، جزاه الله على فعاله، وجعله ضيِّق الصّدر. وليس جعْل حتمٍ وجبرٍ، لكنه جعْل حُكمٍ وإرسالٍ، وزيادة في الأعمار والأموال والأولاد وسلامة الأحوال.
والمراد بالآية أن الله وسّع صدر المؤمن [العالم] بالعلم، وتَرَكَ الآخر على أصله؛ لأن أصله الجهل. وقد قيل: العلمُ سَعَةٌ، والجهلُ ضيقٌ.
وقد قال الله تعالى: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا }[مريم:83]، والمراد به أنه أرسلهم وخلاّهم وتركهم.
ومما يدل على أن ذلك، ومثله جزاءٌ من الله تعالى لهم على معصيتهم؛ قول الله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ}[آل عمران:151].(1/234)


ومما يؤيد أن الله لم يضلهم ابتداءً، بل أضلوا أنفسهم، وأضلهم بعضُهم؛ فحكم الله عليهم باسم الضلال، وجزاهم به عذاب جهنم، قولُ الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ، قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا}[الفرقان:17،18]، فبان أن الله ما أضلهم، ولكن أضلوا أنفسهم، وأضل بعضهم بعضاً؛ قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ، يَاوَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً ، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ للإِنسَانِ خَذُولاً}[الفرقان:27-29]، وقال: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ }[يونس:32]، وقال تعالى حاكياً قول إبراهيم عليه السَّلام: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِي‍رًا مِنَ النَّاسِ}[إبراهيم:35،36]، وقال تعالى: {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ }[طه:85]، وقال: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى }[طه:79]، فبرأ الله نفسه من الإضلال، ونسبه إلى أعدائه.(1/235)

47 / 115
ع
En
A+
A-