فنقول: إذا كان الله قديماً (والصوت قديماً) فقد اشتبها في القِدَمِ، وصارا قديمين اثنينِ، وكذلك إذا كان له شيء يقدر به وكان قديماً كان مُشَابهاً له، وأشبه ذلك قول النصارى في الأقانيم الثلاثة [أنها] جوهرٌ واحدٌ. وقد قال الله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ}[الشعراء:5]، وقال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}[الأنبياء:2]، وقال تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا...}الآية[الأحقاف:12].
وأيضاً فقد أجمعت الأمة على أن في الكتاب مُحكماً ومتشابهاً، وناسخاً ومنسوخاً، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ...}الآية [آل عمرن:7]، وقال: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أو نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أو مِثْلِهَا}[البقرة:106]، فإذا ثبت أن فيه ناسخاً ومنسوخاً ثبت أن الناسخ بعد المنسوخ، وأن المنسوخ قبله، وإذا صحّ أن الناسخ بعد المنسوخ ثبت حِدَثُ الناسخ، وإذا كان بعضه محدثاً وجب أن يكون البعض الثاني محدثاً.(1/166)
وأيضاً فإنه أُنْزِلَ على لغة العرب، وفيه الماضي والمستقبل، فيخبر عن الماضي بما يحسُن وقوعه في أمسِ، ويخبر عن المستقبل بما يحسُن وقوعه في غدٍ، قال عزّ من قائلٍ: {الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}[الروم:1-3]، وقد أجمعت الأمة على أن القرآن لم ينزل على النبيءِ صلى الله عليه وآله وسلم جملةً واحدةً في وقتٍ واحدٍ وإنما نزل متفرقاً، فكان ينزل بحسب الحاجة إليه عند النازلة التي تنزلُ والحادثة التي تحدثُ، ولا يُقَدِّمُ الشَّيءَ ويدَّخره ويُعِدُّهُ قبل الحاجة إليه إلا العاجز الذي يخشى أن يطلب الشيءَ عند حاجته إليه فيتعذّر عليه، والله تعالى لا يتعذر عليه شيءٌ ولا يعجزه شيءٌ. فصحّ أن الله تعالى أحدثه [في] وقت حاجة المكلَّفين إليه.
وأيضاً فإن الكلام الذي سمعه موسى عليه السَّلام من الشجرة لا يخلو من أن تكون الشجرةُ مَحلاًّ له، أو يكون الله محلاًّ له نطق به كما ينطق ذو الآلة.
فإن قالوا: الشجرة محلٌّ له خلقه الله فيها، فهذا قولنا، وهو يدل على أنه مُحدثٌ؛ لأن الشجرة محدثةٌ، وإذا كان المحلُّ محدثاً كان الحالُّ محدثاً، ولا يصح أن يقال: إن الشجرة قديمةٌ، ولا أن كلام الله الذي سمعه موسى قديمٌ فيها، ولا يجوز أن يكون الكلام في غير محلٍّ.
وإن قالوا: الله هو الذي نطق بالكلام، كما ينطق ذو اللسان، فقولُهُم: نَطَقَ يدلُّ على الحِدَثِ؛ لأنه بمعنى: فَعَلَ، وخرج من أن يكون قديماً.(1/167)
وإن قالوا: هو المتكلم فيما لم يزل. قلنا: هذا يدل على العبث، والهذيان تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً.
وإن قالوا: هو ينطق حيناً ويصمتُ حيناً. قلنا: وهذا دليلٌ على الحِدَثِ، حِدَثُ النُّطق والنَّاطق؛ لأنه يكون متحركاً حِيناً وساكناً حيناً، وقد صحّ أن السكون بعد الحركة محدثٌ، وأن الحركة من بعد السكون محدثةٌ، فصح أنه مُحدثٌ؛ لأن فيه دليلٌ الحِدَثِ.
وأيضاً فإذا كان ينطق بآلةٍ لم تكن الآلة إلا مُصوَّرةً، وإذا كانت مُصوَّرةً ثبت أن لها مصوِّراً، فبطل ما قالوا من أن الله ينطق، وأن كلامه قديمٌ، وقد روي عن النبيءِ صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ما خلق الله شيئاً أعظم من آية الكرسي ، وما خلق الله شيئاً أحبَّ إليه من سُورة الإخلاص)) فدلّ على أن القرآن محدثٌ.
فإن قالوا: إذا لم يكن متكلِّماً وجب أن يكون أخرس. قلنا: إن الخرسَ آفةٌ في اللسان، والله ليس بذي لسانٍ ولا جارحةٍ، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً.(1/168)
وأما قول من يقول: إن القرآن المتلوّ ليس هو القرآن على الحقيقة، وإنما هو عبارة عنه. فنقول: إن الله تعبّد المؤمنين بهذا المتلوّ، ولم يتعبّدهم بقرآنٍ غيره، وتحدَّى الكافرين بأن يأتوا بسورةٍ من هذا المتلوّ، ولم يتحدَّهم بقرآن غيره، فقال تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ }[المزمل:20]، وقال: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الأعراف:204]، وقال: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ }[الأعراف:185]، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَ يُؤْمِنُونَ ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[الطور:33،34]، وقال: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:88]، وقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ}[يونس:38].
وقول من يقول: (إن هذا المتلوّ عبارةٌ عن القرآن)، يُشبه قول السَّوْفَسْطَائيّةِ الذين نفوا الحقائقَ؛ لأنه إذا كان هذا المتلو لا حقيقة له؛ أمكن في كل الأشياء أن يكون لا حقيقة لها، فبطل قول من يقول: إن المتلو عبارةٌ عنه. ولا فائدة في شيءٍ لم يقف عليه المكلَّفون، ولا تُعُبِّدوا به.(1/169)
وأما احتجاجهم على قِدَمِ المعاني بقول الله تعالى: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [النساء:166]، وقوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ }[البقرة:255]، وبقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات:58]، وبقول الناس: انظروا إلى قدرة الله. فإن معنى قوله: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي: أنزله وهو عالمٌ به. وقوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} أي: من معلومه، وقوله: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} معناه: القويُّ المتينُ. وقول الله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ }[الصافات:180]، المعنى: سبحان ربك العزيز. وقد تكون العزة لله إسماً وحكماً غيره تنفي عنه اسم الذلّة وحكمها كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ }[المنافقون:8]. وأما قول الناس: انظرو إلى قدرة الله؛ فالمعنى: انظروا إلى اقتدار الله؛ لأنهم لا يقولون ذلك إلا إذا رأوا خلقاً من خلق الله عظيماً، قال الله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا }[الأحزاب:38].
وقالت الصفاتية: يصح أن يُرى الله تعالى من طريق العقل، ونراه في الآخرة قطعاً، وإنما يراه المؤمنون دون المعاقبين. ومنهم من جوز أن يراه أهل النار، واستدلوا بقول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:22،23]، وبما روي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((سترون ربكم يوم القيامة كالقمر ليلة البدر)).(1/170)