ولو كان له صاحبةٌ لكان محتاجاً، ولو كان محتاجاً لم يكن غنيًّا، وإذا لم يكن غنيًّا كان عاجزاً، وإذا كان عاجزاً كان مصنوعاً. وإذا كان له ضدٌّ كان له مانعاً عما يريد، وإذا كان له مانع كان ضعيفاً، وإذا كان ضعيفاً كان مصنوعاً، وإذا كان له ندٌّ كان له شبيهاً، وإذا كان له شبيهٌ لم يكن صانعاً للعالَم وكان مصنوعاً. وكذلك لو كان معه غيره في القِدَمِ لكان له شبيهاً، ولو كان في مكانٍ لوجب أن يكون مَحْوِياً، ولو كان مَحْوِياً لكان مصنوعاً ولكان بعضُ المواضع منه خالياً، وإذا كان في مكانٍ دون مكان كان عن المكان الذي ليس هو فيه غائباً، وإذا كان عنه غائباً كان له ولِمَا يحدث فيه جاهلاً، وإذا كان عن شيءٍ جاهلاً كان عاجزاً.
ومعنى قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ }[الزخرف:84]، أنه إله من في السماء، وإله من في الأرض؛ كما يقال: فلانٌ أمير في بلد كذا، وبلد كذا، وإن لم يكن فيهما ساكناً. وقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}[الملك:16]، أراد أأمنتم إله من في السماء؛ ولأنه تعالى كان ولا مكان، ولو كان المكانُ الذي يكون فيه قديماً لوجب أن يكون له في القدم شبيهاً، ولو كان المكان الذي يكون فيه محدثاً لكان منتقلاً، وإذا كان منتقلاً كان محدثاً؛ لأن الانتقال دليلُ الْحِدَثِ.(1/161)


ونقول: إنه ليس بخارجٍ من الأماكن، كخروج الشيء من الشيء، ولا بغائبٍ منها، ولو كان كذلك لأدّى ذلك إلى الانتقال والجهل ... تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً. ولو كان حالاًّ أو محلولاً لكان جسماً أو عرضاَ، ولو كان جسماً أو عرضاً لكان محدثاً، ولو كان محسوساً أو موهوماً لكان محدثاً ضعيفاً؛ لأن المحسوسَ والموهومَ لا يكونان إلا حَالاًّ أو محلولاً، ولا يكون الحالُّ والمحلول إلا جسماً أو عرضاَ، ولا يكون الْمُدركُ بالحواسِّ والوَهمِ إلا مقابلاً -أو في حكم المقابل- كمن يَرى وجهه في المرآة، أو حَالاًّ في الجسم كالألوان؛ وإذا كان كذلك كان ضعيفاً عاجزاً، وإذا كان عاجزاً كان مصنوعاً. ولو كان يُرى في الآخرة لوجب أن يُرى في الدنيا، ولو كان يُرى لزال عنه المدح ووجب له النقص لأنه تعالى يقول: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ }[الأنعام:103]، فمدح نفسه بذلك، فلو جاز أن يُرى في الآخرة لزال عنه المدح، ووجب له النقص. كما أنه مدح نفسه بأنه لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم، فلو جاز أن تأخذه سِنةٌ في وقتٍ من الأوقات لزال المدح، ووجب النقص، والله يتعالى عن ذلك. ولو كان له جارحةٌ يدٌ أو وجهٌ أو جنبٌ أو عينٌ لكان جسماً، ولو كان جسماً لكان مصنوعاً. والأعضاء والجوارح لا تكون إلا مصوَّرةً، والصورةُ لا بُدَّ لها من مصوِّرٍ؛ ولو كان كذلك لكان هذا غاية التَّشبيه والإلحاد وخلاف التوحيد.(1/162)


فأما ذِكرُ الوجه -في القرآن- واليد والعين والجنب، فإن الوجه هو الذاتُ، والعين هو العلم، واليدين البسط والقبض، والجنب السبيل. وهذا موجود في لغة العرب لأن القرآن نزل بلغة العرب، قال الشاعر:
وقد يهلك الإنسانُ من وجه أَمْنِهِ

وينجو بإذن الله من حيث يحذر

وتقول العرب: لفلانٍ عليَّ يدٌ أي نعمةٌ. والعين عند العرب قد تكون الحدقة، وقد تكون عين الماءِ، وقد تكون عينُ الرُّكبة، وكذلك العلم. فقوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا }[القمر:14]، أي بعلمنا، وقوله تعالى: {يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ }[الزمر:56] أي في سبيل الله، وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}[المائدة:64] يريد نعمته وبليَّته، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ }[الرحمن:27] أراد ويبقى ربك ذو الجلال والإكرام.
والدليل على أن وجهه ذاته وأنه لا جارحة له قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }[القصص:88] فأوجب الهلاك على الجوارح واستثنى الوجه وهي لا تكون إلا شيئاً، فكيف تهلك الجوارحُ ويبقى الوجهُ؟ فصح أنه لا جارحةَ له، وأنَّ وجهه ذاته. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((خمسٌ لا يُعذرُ بجهلهنَّ أحدٌ : معرفة الله سبحانه، لا يُشَبِّههُ بشيءٍ، ومن شبّه الله بشيءٍ، أو زعم أن الله يُشبهه شيءٌ، فهو من المشركين...)) الخبر. فصحّ أن الله تعالى مُنزهٌ عن صفات النقص غيرُ مُشبَّهٍ بشيءٍ، ولا شيء مُشْبِهٌ له، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً.(1/163)


وقول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف:110]، تأويله أن اللقاءَ في كتاب الله هو يومُ الحساب والموقف، والعربُ تُسمّي الاجتماع والحشد لقاءً، ولما كان الله هو الذي جمعهم سُمِّيَ لقاء الله، ألا تَرى أن الأمير لو أمر بلقائه ولم يُرَ فيه، أن القائل يقول: كنا في لقاء الأمير. واللقاء الجزاءُ والثّوابُ؛ يدل عليه قول الله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[التوبة:77]، ولأن المشبهة مجمعةٌ على أن أهل النار لا يرونه.
وروي عن الناصر عليه السَّلام أنه روى بإسناده أن رجلاً أتى إلى النبيءِ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إني أتصدّق بشيءٍ من مالي أريد به وجه الله، وأحِبّ أن أُذكر بالخير، فأنزل الله هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف:110].(1/164)


فصل في الكلام فيما اتفق عليه أهل القبلة وما اختلفوا فيه من التوحيد
فاتفق الشيعةُ والمعتزلةُ والصفاتيّة والخوارجُ والحشويّةُ على أن الله تعالى لا مِثل له. وأجمعوا على القول بأنه يَرى ولا يُرى، وهو بالمنظر الأعلى. واتفقوا في أنه لا تُدركه الأبصار في الدنيا، واتفقوا على أن الله تعالى عالمٌ فيما لم يزل ولا يزال، ويجب ذلك له ويستحيل [عليه] خلافُهُ. واتفقوا في أن القرآن تنزيلُ الله، ووحيُهُ.
واختلفوا فيما له كان الله عالماً، فقالت الزيدية، والمعتزلة: إن الله تعالى عالمٌ لذاته، وعالمٌ لنفسه؛ ومعنى عالم لذاته: أنه تعالى عالمٌ يجب ذلك له، لا لشيءٍ سوى ذاته، وكذلك قالوا في أن الله تعالى حيٌّ، قادرٌ، قديمٌ، سميعٌ، بصيرٌ، ولم يُثبتوا قديماً سوى الله تعالى، ونسبوا من أثبت معه قديماً (أو قُدماءَ) إلى الكفر وقالوا: هو مذهب النصارى قد دس في الإسلام. وأن القرآن محدثٌ.
وقالت الصفاتية من الكلابيّة والأشعرية: إن الله تعالى عالمٌ بمعنى سَمَّوْهُ عِلماً، وقادر بمعنًى سمّوه قُدرةً، وحيٌّ بمعنًى سَمَّوْهُ حياةً.
وروي عن بعض الأشعرية مثل قولنا. وقد قدّمنا الاحتجاج عليهم فيما تقدم.
ولم يختلفوا في أن القرآن قديمٌ، واختلفوا في هذا المتلوّ، فقال قوم: إن القرآن المتلوَّ ليس هو كلام الله تعالى على الحقيقة بل هو عبارةٌ عنه، وكذلك قالوا في التّوراة والإنجيل والزبور، وقالت الحشوية منهم: إن المتلوَّ هو القديمُ.(1/165)

33 / 115
ع
En
A+
A-