وأثبت كفار العربِ الصانعَ، وأشركوا بعبادتهم الأصنام، وقالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، وقد حكى الله ذلك فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ }[لقمان:25][الزمر:38]. ومنهم من قال: الجنُّ شركاء لله، وقالوا: الملائكة إناثٌ، وجعلوا لله بنين وبناتٍ، فقال الله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ، لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:100-103]، وقال تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ، أَمْ خَلَقْنَا الْمَلاَئِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ، أَلاَ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ، وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ، أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ، أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ، أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ، فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ، وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ(1/156)
لَمُحْضَرُونَ ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}[الصافات:149-160]، فأخبر الله تعالى بقولهم. ثم قال: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} أي حجة. وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} يقول: لقد علمت الجِنّةُ إنهم لمُعذّبون، ثم استثنى المؤمنين منهم، فقال: {إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} ومحضرون هاهنا بمعنى معذبين قال الله تعالى: {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ، وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}[الصافات:56،57]، وقال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ، إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}[الصافات:127،128]، وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ، أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ ، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَانِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ، أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ، وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}[الزخرف:15-19]، فاحتجّ الله عليهم بِحُجّة بالغةٍ، وأيُّ حُجّةٍ أبهر من حجّةِ الله بأن قال: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ ، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ(1/157)
وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}، يقول: إن أحد هؤلاء الكفار إذا بُشّرَ بالأنثى اغْتَمَّ وتعب، وإذا بشر بالذَّكر فرح واستبشر، فهل يكون الله اختار لهم الذُّكور، ويأخذ الإناث له؟ وقد عابهم بقوله: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ }[الزخرف:18]، عز الله عما يقول الكافرون.
فأما عُبّاد الأصنام والأوثان فإن الرد عليهم ظاهرٌ قريبٌ، وذلك أن الحجارة والأصنام مَوَاتٌ لا حياة فيها، ولا قدرة، ولا علم، ولا تنفع، ولا تدفع، وقد بيّن الله تعالى ذلك فقال: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}[الحج:73]، يريد أن الذُّباب لو أخذ من الصنم شيئاً لم يستنقذوه منه، ضعف الصنم والذّبابُ. وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}[الأحقاف:5]، وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت:41]، وقال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أو أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكّلُونَ}[الزمر:38]، وقال تعالى(1/158)
حاكياً قول إبراهيم عليه السَّلام: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:95،96]، يريد: والحجارة التي تنحتون.
ومن الكفار من ادّعى الرُّبوبيّة كالنِّمرود، وفرعون، وغيرهما من الملحدين. وقد ذكر الله احتجاج إبراهيم عليه السَّلام حين قال إبراهيم: {رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ }، {قَالَ} الذي كفر: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[البقرة:258] فثبتت حُجَجُ الله عليه، وغلبتْ أولياء الله، وأُهْلِكَتْ أعداء اللهِ. وقد أوردنا من الحجج على جميع فرق الكفار ما في بعضه كفاية.(1/159)
فصل في الكلام في أصل التوحيد وحقيقته
اعلم أن أصل التوحيد وحقيقته هو إثبات الصانع، ونفي كل صفة نقصٍ عنه. وقد قدّمنا الكلام في إثبات الصانع، وهذا موضوع نفي صفات النقص عنه، فنقول:
إن كل صفة نقصٍ لا تجوز على الله لا في دنيا ولا في آخرة؛ لأنه إذا كانت فيه صفةُ نقصٍ كان عاجزاً، وإذا كان عاجزاً لم يكن قادراً حكيماً، والله يتعالى عن ذلك.
فمن صفات النقص أن يكون والداً أو مولوداً، أو يكون له صاحبٌ أو صاحبةٌ أو حدٌّ أو ضدٌّ أو نِدٌّ، أو يكون معه سواه في القِدَمِ، أو يكون في مكانٍ، أو يكون حالاًّ أو محلولاً، أو يكون له جوارح وأعضاء من يدين وجَنْبٍ، ووجهٍ وعينين، أو أنه يُرى في دنيا أو آخرة، أو يُدْرَكُ بحاسّةٍ أو وَهْمٍ أو ظنٍّ، وإذا كان بهذه الصفات كان مُشْبهاً للمحدثات ولم يكن مستحقًّا للمدح، فتعالى الله عن ذلك، بل تمدّح بأنه لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيءٌ، فقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }[الشورى:11]، فلو كان والداً لكان مولوداً، وإذا كان مولوداً ثبت أنه محدثٌ، وإذا كان محدثاً كان مصنوعاً.(1/160)