وقال الهادي إلى الحق عليه السَّلام في مسائل الرازي -وقد سأله: عن الفرق بين الاسم، والْمُسمّى- فقال عليه السَّلام: الفرق بينهما أنا لما رأينا الاسم الواحد، ينتقل في الْمُسَمَّيين، علمنا أن الاسم غيرُ المسمّى، وأنه دلالةٌ على المسمّى وعلامة له، ليست به ولا هو بها، وهذا فأبْيَنُ ما يكون، ولن يغلط في الفرق بين الاسم والْمُسمّى حتى يقول: إن الاسم المسمّى؛ إلا جاهلٌ عَمِيٌّ، وضالٌّ أبْلَهٌ غَوِيٌّ.
فصحّ ما قلنا من أن أسماء الله له، وأنها ليست هو. وأي حجة أبهر من كتاب الله، ومن إجماع أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم ب ه لن تضلوا من بعدي أبداً، كِتَابَ الله وعِتْرَتِي أهل بيتي...))الخبر.(1/151)
فصل في الكلام في أن الله تعالى قديمٌ
اعلم أنه لما ثبت حِدَثُ العالَم -وقد دللنا على حدوثه فيما تقدّم- وقد دلّ الله تعالى عليه بقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ...}الآية[آل عمران:190]، وبقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[المؤمنون:12-14]، فَدَلَلْنَا على حِدَثِ العالَم بِحِدَثِ هذه الحوادث، وبالحركات والتنقل والزّيادة والنُّقصان، وهذا أكبر الدلائل العقلية على حِدَثِ العالَم، فلما صحَّ حِدَثُ العالَم، ووجبَ أن له مُحْدِثاً صحّ أن محدثه متقدِّم له؛ وفي المشاهد والعقل الضروري: أن كلَّ صانعٍ متقدِّمٌ لصُنعهِ، إذ هو موجد لصنعه. ولما ثبت أن الله تعالى مُوجدٌ للعالَم، ثبت أنه لا مُوجدَ له (غيرُهُ). ولو كان له صانعٌ متقدِّمٌ له لكان للصّانع صانعٌ إلى ما لا نهاية له، فصحّ أن الله قديمٌ.(1/152)
باب حقيقة معرفة التوحيد
اعلم أنه لما ثبت أن لهذا العالَم صانعاً [صنعه]، وأنه حيٌّ، قادرٌ، قديمٌ، عالمٌ، سميعٌ، بصيرٌ، وجب أن يكون واحداً؛ ولأنه لو كان معه إلهٌ غيرُهُ، أو آلهةٌ (معه) لجاءتنا كتبهم ورسلهم، ولتبيّن لنا صنعهم وعملهم، إذ لا يُحكم بشيءٍ لغير مُدَّعٍ، فلما لم تصلنا الكتب والرّسل إلا لواحدٍ علمنا أنه لا ربَّ سواه ولا إله غيره.
ودليل آخر: أنا لمّا رأينا هذا العالَم على غايةٍ من التّدبير، والصُّنع المتقن والتّقدير، فرأينا شمسه وقمره ونجومه قد قُدّرت على غايةٍ من الصّلاح، ورأيناها لا يفترق مُجتمعها، ولا يجتمع مفترقها، ولا تَفَاوتَ فيها ولا غِيَارَ؛ ورأينا الهواء وما نشاهد من السماء والأرض وما فيهما قد وُضِعَ كلُّ شيءٍ منها في موضعه، وأُعِدّ كل شيءٍ منها لشأنه، قال الله تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}[الملك:3]، فعلمنا أن صانع هذا الصنع ومدبِّره واحدٌ، ولو كان معه غيرُهُ لم يخلُ من أن يُريد أحدهما صنع شيءٍ ويريد الآخر خلافه، كأن يُريد أحدُهُما حياة زيدٍ، ويُريد الآخرُ موتَهُ، ولو كان ذلك كذلك لوجب التّضادُّ والتّمانُعُ، ولفسد الصُّنعُ ولَمَا اتَّسق وانتظم إلا لمدبِّرٍ واحدٍ.(1/153)
وقد دلّ الله تعالى على ذلك في كتابه على لسان نبيئه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الأنبياء:22]، وقال تعالى: {لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَبْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً}[الإسراء:42]، وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}[المؤمنون:91]، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، اللَّهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:1-4].
واعلم أن الكفّار افترقوا على مقالاتٍ:
ففرقة نفوا الصانع نفياً محضاً، وقد حكى الله قولهم حيث يقول تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ}[الجاثية:24]، وهو باطنُ الباطنية واعتقادهم الذي لا يُطْلِعُونَ عليه إلا من استحلفوه واستوثقوا منه؛ ولأنهم جمعوا بين الفلسفة والشريعة، فأقرُّوا بالإسلام واعتقدوا الكفر، وزعموا أن لكلِّ ظاهرٍ باطناً، ولَزموا مسائل من متشابه الكتاب. وقالوا في توحيدهم: لا يقال إن الله موجودٌ، ولا يقال غيرُ موجودٍ، ولا عالمٌ ولا غيرُ عالمٍ، ولا حيٌّ ولا غيرُ حيٍّ، ولا قادرٌ ولا غير قادرٍ.(1/154)
قالوا: لأنك إذا قلتَ: إنه موجودٌ حيٌّ قادرٌ عالمٌ، فقد شبّهتهُ بما سواه؛ وإذا قلتَ: ليس كذلك فقد نفيته. وغرضهم بهذا القول التَّوصُّل إلى الكفر. وإذا لم يكن موجوداً فهو معدومٌ بلا شك؛ لأنه لا منزلة ثالثة تُعلم؛ وكذلك إذا لم يكن حيًّا فهو مَوَاتٌ، وإذا لم يكن قادراً فهو عاجزٌ، وإذا لم يكن عالماً فهو جاهلٌ ... تعالى الله [عن ذلك] علوًّا كبيراً.
وقد بيّنا الفرقَ بينه، وبين من سُمِّيَ حيًّا قادراً عالماً موجوداً من خلقه فيما تقدّم.
وقالت فرقة من الملحدة وهم من الفلاسفة: الهواء هو الله. ووصفوه بأنه مع الأشياءِ ومحيطٌ بالأشياءِ، وأنه بعيدٌ قريبٌ، وقد قدّمنا الردّ عليهم.
وقال قوم: النُّورُ والظُّلمةُ الصَّانعانِ، وقد قدّمنا الرد عليهم.
وقال قوم من الفلاسفة بإثبات الصّانع، وزعموا بأنه فاعلٌ في ما لم يزل، وأن العالَم ظهر منه كظهور ضياء الشمس من الشمس، وحرّ النّار من النّار. وقال قوم من الفلاسفة: بقدم الزمان والمكان والهيولى والنفس.
وقالت النصارى بِقِدَمِ الأقانيم الثلاثة: أُقنوم أب، وأُقنوم ابن، وأُقنوم روح القدس، وقالوا: ليس الأُقنومُ الأولُ الأقنوم الثَّاني ولا الثالث ولا غيرهما، وهذا القول ظاهر الفساد، إذ لا يكون شيءٌ لا شيءَ ولا لا شيءَ.
وقالت الثنوية بِقِدَمِ النُّور والظُّلمة، وغلَّبوا الظُّلمةَ على النُّور.(1/155)