فيرد عليهم أن الله تعالى لو وُصِفَ بمعانٍ هي القدرةُ والعلمُ والحياةُ، والسّمعُ والبصرُ والقِدَمُ، لم تخلُ هذه المعاني من أن تكون قديمةً أو محدثةً أو معدومةً، ولا يجوز أن تكون معدومةً لأن العدم لا يُوجب حكماً، ولا يجوز أن تكون محدثةً لأنها لو كانت محدثةً لوجب أن يكون الله تعالى قبل حدوثها غيرَ قادرٍ ولا عالمٍ ولا حيٍّ ولا سميعٍ ولا بصيرٍ؛ ولو كان كذلك لم يصح منه إحْدَاث هذه المعاني، ولا يجوز أن تكون قديمةً لأنها لو كانت قديمةً لوجب أن يكون مع الله قديمٌ سواه؛ لأن كونه قديماً من أخصِّ أوصَافِهِ، وما يشارك الشيءً في أخصِّ أوصافه يجب أن يكون مثله، فبطل ما قالت الصّفاتيّة، وصح أن الله تعالى قديمٌ لنفسه، عالمٌ لنفسه، حيٌّ لنفسه، سميعٌ بصيرٌ لنفسه.
ولمَّا ثبت أنه عالمٌ لنفسه ثبت أنه عالم بجميع المعلومات، وقد دلّ الله على ذلك بقوله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ }[يوسف:76]، فأخبر أن كل عالمٍ بعلمٍ فعلمُ الله فوقَهُ. ومعنى قوله تعالى: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ }[النساء:166]، أي أنزله وهو عالمٌ به.
ومعنى قوله تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ }[البقرة:255]، يريد من معلومِهِ، ولو كان علمُهُ هو هو لكان مُنقسماً، فبعضُهُ يُحاط به وبعضه لا يُحاط به؛ لأنه استثنى شيئاً منه فقال: {إِلاَّ بِمَا شَاءَ}، فصحّ أن علم الله ليس هو الله.
اختلف الناس من أهل التوحيد في صفات العظمة على قولين:
فقال قوم: الصّفات هي لله، وقال قوم: هي الله. وعندنا وعند المعتزلة: هي لله.(1/146)
وعند فرقة المجبرة وهم الذين قالوا: القرآن معنًى في النفس، وعند (أصحاب) مطرّف بن شهاب: أنّها هي الله، فإنهم قالوا: اسم الله هو هو.
والرد عليهم بأن نقول: أخبرونا هل الله مستحقٌّ لهذه الأسماء أو غير مستحقٍّ لها؟ فإن قالوا: ليس بمستحقٍّ لها خرجوا من العقل والإجماع والكتاب والسُّنة. وإن قالوا: هو المستحقُّ لها صحّ أن المستحِقَّ غيرُ المستحَقِّ، وثبت أنها له، فإذا استدلوا على قولهم بقول الله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ }[الرحمن:78]، وبقوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ }[الواقعة:74]، وبقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى }[الأعلى:1]، وبقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ }[النور:36]. قلنا: إن معنى {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} هو تبارك ربك، وسبِّح ربك، ويذكر فيها الله، والاسم هاهنا صِلَةٌ. ومثل هذا موجودٌ في لغة العرب، قال طرفة بن العبد:
إلى الحول ثمَّ اسم السّلام عليكما
ومن يبك حولاً كاملاً فَقَدِ اعْتَذَرْ
أراد: ثم السلام عليكما.
ونقول لهم: أخبرونا عن أسماء الله هل هي موجودةٌ في الكتب وفي صدور العارفين؟ أم ليست في صدور المؤمنين ولا في كتب ربِّ العالمين؟(1/147)
فإن قالوا: ليست في صدور المؤمنين، ولا في كُتُبِ رب العالمين. خالفوا الإجماع والعقل والكتاب والسُّنّة؛ وإن أقروا بها وقالوا: هي توجد في الصّحف وسائر الكتب، وفي صدور المؤمنين، صحّ أنها غيرُهُ وأنها لهُ؛ ويؤيد ذلك قول الله تعالى: {لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }[الحشر:24]، وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}[الأعراف:180]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أو ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}[الإسراء:110]، فصحّ أنها له؛ لأنه لم يقل: وهو الأسماءُ الحسنى، ولا قال: فادعوها.
وقال أمير المؤمنين عليه السَّلام في الدُّرة اليتيمة: له سبحانه من أسمائه معناها، وللحروف مجراها، إذ الحروف مَبْدُوعَةٌ، والأنفاسُ مصنُوعةٌ.
وروي عنه عليه السَّلام أنه قال: من عَبَدَ الاسم دُون المعنى فقد كَفَرَ، ومن عَبَدَ الاسم والمعنى فقد أشركَ، ومن عَبَدَ المعنى بِحَقِيْقةِ المعرفةِ فهو مُؤمنٌ حقًّا.
وقال عليه السَّلام في الدُّرة اليتيمة: إن قلتَ: متى؟ فقد سبق الوقت كونَهُ، وإن قلتَ: قبلُ، فالقبلُ بعدَهُ، وإن قلتَ: هو، فالهاء والواو خَلْقهُ.
وقال علي بن الحسين عليهما السلام: (فأسماؤه تعبيرٌ، وأفعالُهُ تفهيمٌ، وذاتُهُ حقيقة) فصح أن التعبير غير المعبّر عنه.
وقال عليه السَّلام: ليس مُذ خلق استحقَّ اسم الخالِقِ، ولا بإحداثه البَرَايَا استحقّ البراة.(1/148)
وقال القاسم بن إبراهيم عليهما السلام -في جواب مسائل سُئل عنها: معنى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ }[العلق:1]، وإنما اسمُ ربه الذي أمر أن يُقْرأَ به {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الذي قدّمه في صدر كل سورة. وقال عليه السَّلام في معنى قول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ }[آل عمران:18] -وسؤال الملحد: هل شهد الاسم للمُسمّى، أو شهد المُسمَّ للاسمِ؟- فقال: الشاهد هو الله، أي عَلِمَ، والاسمُ فهو إسمُ الله، وما كان لله فليس هو اللهُ، ولله الأسماء الحسنى، والمُسمى فواحدٌ.
وقال ولده محمد بن القاسم عليهما السلام -في كتاب الشرح والتّبيين في صفة الله تعالى: لم يزل الجودُ له صفةٌ، وإن كان من يجودُ عليه غير موجودٍ، وكذلك كان رحيماً ولا مرحومَ بالقوّة التي يرحم بها المرحومَ إذ خلقه، ورضاهُ الرّحمة، وإنها عنده محمودةٌ من فَعَلَهُ له مَدَحَهُ، ولا يجوز أن يقال: إن الله لم يزل لهذه المخلوقات فاعلاً قبل فعلها، ولكن يقال: كان خالقاً بالقوّة إذا أراد أن يخلقه، وعالمٌ وإن لم يكن معلومٌ، ورحيمٌ لرضاه بالرّحمة، وإنها من صفته وإن لم يكن مرحومٌ، وحكيمٌ بقدرته التّامَّةِ على الحكمةِ، ولا محكمات قبل خلقه لها، وسأضرب لكم في ذلك مثلاً: ألا تعلمون أن العالِمَ بالبناءِ القويّ عليه بَنَّاءٌ وإن لم يَبْنِ، وكذلك النّجار والطبيب والعالم والفارس ...إلى قوله: فسُمِّيَ بهذه الأسماء إذ هي واجبةٌ له قبل وجود الأشياءِ).(1/149)
وقال جعفر الصادق عليه السَّلام -في رده على صاحب الهليلجة عندما قال له: كيف جاز للخلق أن يَتَسَمُّوا بأسماءِ الخالق؟- فقال: إن الله جل ثناؤُه، وتقدّست أسماؤه أباح الأسماء، فقد يقول القائلُ للواحدِ من الناس: واحدٌ وقويٌّ، والله واحدٌ قويٌّ. وصانعٌ والله صانع، فَمَنْ قال: الله واحدٌ، والإنسانُ واحدٌ، فلم يُشَبِّهْهُ في المعنى، وإنما الأسماء هي دِلاَلاَتٌ على الْمُسّمَى.
وقال علي بن موسى الرِّضَى عليهما السلام في أحد مجالسه لعمران الصابيء عند المأمون: وكذلك صار اسمُ كلّ شيءٍ غير المسمّى، وصفةُ كلِّ شيءٍ غير الموصوف...إلى قوله: أفهمتَ؟ قال: نعم.
قال عمران: يا سيدي؛ وصفاتُهُ هي نفسه؟
قال الرضى: إن أسماءه وصفاته غيرُهُ، وهو غيرُهما، ولا يخلو إذا كانت غيره من الدّلالة عليه وعلى وجوده. وتحقيقهُ والمثل في ذلك والدليل عليه قولك إذا قلتَ: السّماءُ؛ وإنما ذكرتَ خمسةَ أحْرُفٍ.
وقال الهادي إلى الحق عليه السَّلام في كتاب الأحكام مُحتجًّا على من قرأ في الركعتين الأخيرتين مُسرًّا فذكر فضل أم الكتاب وقال: هي السّبعُ المثاني التي ليس في التوراة والإنجيل والزَّبور مثلها. وروي ذلك عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم قال: وذلك أنها أمُّ الكتاب، ولِمَا فيها من أسماء ربّ الأرباب وتوحيده جلّ جلالُهُ ...إلى قوله: وإنما جعل الله القرآنَ منفعةً لكل إنسانٍ، وأمر نبيئه بتبيينه للعالمين، وإقراره في آذان السّامعين.(1/150)