3- مراعاة سياق الآيات
ولا بد عند الاستشهاد بآيات الكتاب من مراعاة سياقها، سواء أكانت الآيات دالة على مسائل التوحيد أم مسائل العدل، أو ما يتعلق بالعقيدة بشكل عام، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:96]، استدلت بها بعض الفرق على أن الله خلقنا وخلق ما نعمله من الأعمال خيرها وشرها، ولو رجعوا إلى السياق لوجدوا زيف قولهم وفساده، فالسياق هو هكذا: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ ، مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ ، فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ، قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:91-96]، فالآية مقترنة بما قبلها والمراد بها أن الله خلقكم وخلق هذه المادة التي تعملون منها الأصنام فكيف تعبدون ما تنحتونه مما خلق؟!(1/11)


4- تحديد معنى المصطلحات
ومما يعين على فهم الكلمة المطلوبة حصرُ معانيها اللغوية ومواردها في القرآن الكريم، وكذلك شواهدها من أشعار العرب؛ لأن القرآن نزل بلغتهم، فلا مانع من الاستشهاد بكلماتهم في إيضاح معاني الكلمات، ومن الأمثلة على ذلك ما أجاب به الإمام الهادي إلى الحق عليه السَّلام على أحد المجبرة الذي زعم أن الاغفال من الله واستدل بقوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف:28]، فقال الإمام الهادي عليه السَّلام- موضحاً فساد قوله، وزيف اعتقاده: (وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا}، فقال: خبرونا عن هذا الذي أغفل الله قلبه عن ذكره، هل أراد الله أن يطيعه؟ فتوهم- ويله وغوله إن لم يتب من الله ويحه ـ!! أن الله تبارك وتعالى أدخله في الغفلة، وحال بينه بذلك وبين الطاعة، فليس كما توهم، ألا يسمع إلى قول الله عزّ وجلّ: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}؟ فأخبر سبحانه أنه متبع في ذلك لهواه، ضال عن رشده، تارك لهداه، ولو كان من الله لم يكن العبد متبعاً لنفسه هواه، بل كان داخلاً لله فيما شاء وارتضى،وسنفسر معنى الآية إن شاء الله والقوة بالله وله: إن الله تبارك نهى نبيه عن طاعة من أغفل قلبه ممن آثر هواه على هداه، وأما معنى ما ذكر الله سبحانه من الإغفال فقد يخرج على معنيين ـ والحمد لله ـ شافيين كافيين:(1/12)


أحدهما: الخذلان من الله، والترك لمن اتبع هواه، وآثره على طاعة مولاه، فلما أن عصى وضل وغوى وترك ما دل عليه الهدى؛ استوجب من الله الخذلان لما كان فيه من الضلال والكفران، فغفل وضل وجهل إذ لم يكن معه من الله توفيق ولا إرشاد، فتسربل سربال الغي والفساد.
وأما المعنى الآخر: فبين في لسان العرب موجود، معروف عند كلها محدود، وهو أن يكون معنى قوله: {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} أي: تركناه من ذكرنا، والذكر هو التذكرة من الله والتسديد والتعريف والهداية إلى الخير والتوفيق، فيقول سبحانه: تركنا قلبه من تذكيرنا وعوننا وهدايتنا بما أصر عليه من الإشراك بنا والاجتراء علينا، تقول العرب: يا فلان أغفلت فلاناً، ويقول القائل: لا تغفلني أي تتركني، وتقول العرب: قم مني، أي قم عني، فتخلف بعض حروف الصفات ببعض، وتقيم بعضها مقام بعض، قال الشاعر:
شربنا بماء البحر ثم ترفعت

لدى لجج خضر لهن نئيج

فقال: لدى لجج، وإنما يريد على لجج، فذكر السحاب وشربها من البحار، واستقلالها بما فيها من الأمطار، وقال آخر:
أغفلت تغلب من معروفك الكاسي

فخلت قلبك منهم مغضباً قاسي

فقال: أغفلت تغلب من معروفك، أي تركتها من عطائك ونوالك ومنتك وأوصالك، ثم قال: فخلت قلبك منهم مغضباً قاسي، فقال: منهم، وإنما يريد عليهم غضباً، فأقام حرف الصفة وهو (من) مقام أختها وهي (على)، وأقام (منهم) مقام (عليهم)، فهذا معنى الآية ـ إن شاء الله ـ ومخرجها، لا ما توهم الجهّال على ذي المعالي والجلال من الجبر لعباده والإضلال، والظلم والتجبر بالإغفال).(1/13)


5- فهم الأحاديث النبوية في ضوء القرآن
وإذا أردنا عبودية عقائدية صادقة، فلا بد أن تكون وفق الصفات اللائقة بالله تعالى، ومن المستحيل أن يتناقض الوحي في هذه الصفات سواء في الكتاب أو السنة، فأما الكتاب فقد تقدم كيفية التعامل معه، وأما السنة فلا بد أن يكون الحديث المستدل به منها في أمر العقيدة قطعياً متواتراً، وبما لا يتعارض مع القرآن الكريم بوجه أو بآخر، ويلزمنا عدم المجازفة في الرد والقبول.
وقد أكد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على قاعدة العرض على القرآن الكريم فقال: ((سيكذب عليَّ كما كذب على الأنبياء من قبلي فما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فهو مني وأنا قلته، وما خالفه فليس مني ولم أقله))، وبالرغم من المحاولات التشكيكية في هذا الحديث من قبل الحشوية فإنه يزداد صحةً يوماً بعد آخر، وأبسط مثال على ذلك أن عائشة زوج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم طبقته على أحاديث كثيرة، ومنها حديث: ((إن الميت ليعذب ببكاء أهله ))، فقالت: إنه يتعارض مع قول الله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعام:164].
قال النووي: (وهذه الروايات من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبد الله -رضي الله عنهما- وأنكرته عائشة، ونسبتهما إلى النسيان والاشتباه عليهما، وأنكرت أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك، واحتجت بقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعام:164]، قالت: وإنما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يهودية أنها تعذب وهم يبكون عليها، يعني تعذب بكفرها في حال بكاء أهلها لا بسبب البكاء).(1/14)


ويقول الشيخ الغزالي: (إنها ترد ما يخالف القرآن بجرأة وثقة، ومع ذلك فإن هذا الحديث المرفوض من عائشة ما يزال مثبتاً في الصحاح بل إن (ابن سعد) في طبقاته الكبرى كررها في بضعة أسانيد!!.. وعندي أن ذلك المسلك الذي سلكته أم المؤمنين أساس لمحاكمة الصحاح إلى نصوص الكتاب الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه).
وهكذا تتوالى الاعترافات من هنا وهناك، وتؤكد صحة قواعد أهل البيت في كيفية التعامل مع الأحاديث النبوية.
ثم لماذا ترفض الحشوية هذه القاعدة النبوية، وتقبل قواعد أصحابها؟! وبقطع النظر عن صحة حديث العرض من عدمه فإن القاعدة صحيحة ومطلوبة، ولذلك لمّا تركوها وقعوا في إشكالات كثيرة وتلونات عديدة لم تستوعبها مصطلحاتهم وقواعدهم.
يقول الإمام القاسم بن محمد معلقاً على قبولهم لحكم الشيخ من مشائخهم في الحديث بالصحة أم بالضعف، ورفضهم لحكم كتاب الله فيه: (وناهيك أن يكون كتاب الله ـ أعزه الله تعالى ـ كأصول الخطابي والذهبي، أو كحكم شيخ حكم بصحة الحديث، أو عدمها مع أن المعلوم عدم عصمة ذلك الشيخ في حكمه، ومع عدم صحة ما حكم في نفس الأمر، وهم يوجبون رد ما يخالف أصولهم وما خالف ما حكم به شيخ من مشائخهم، وهل هذا إلا الضلال؟!!).
وكم .. وكم من الأحاديث الإسرائيلية التي تسربت بطريقة أو بأخرى إلى الأحاديث النبوية، فلذا يلزم التنبه لها والتحذير منها حتى لا يقع الناس في فخ التجسيم والتشبيه، ووصف الله بما لا يليق بجلاله، وخير وسيلة لكشفها هو عرضها على القرآن وفقاً للأسس المذكورة، مع استعمال طرق التضعيف الأخرى المعتبرة.(1/15)

3 / 115
ع
En
A+
A-