فصل في الكلام في أن الله تعالى شيءٌ
اعلم أن أعم الأشياء قولنا: شيءٌ، وهو ما يُعلم أو يُدَلُّ عليه، أو يُشاهدُ أو يُخبَرُ عنه، فكل هذه الأشياء تستحق اسم الشيءِ. وما لم يكن يُعلم أو يُدَلُّ عليه أو يُشاهدُ أو يُخْبَرُ عنه فليس يستحق اسم الشيءِ وهو معدومٌ، والعدمُ لا شيءَ، ولا منزلة ثالثة (تكون) غير الشيءِ الموجود وغير المعدوم الذي ليس بشيءٍ، فعلمنا أن الله تعالى هو شيءٌ لا كالأشياءِ، وقد سمّى نفسه شيئاً، قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ...}الآية[الأنعام:19].
وقلنا: إنه شيءٌ لا كالأشياء لإثبات الموجود ونفي التّشبيه، لأنه لو لم يكن شيئاً لكان منفيًّا لا حكم له، ولو كان كالأشياءِ لكان مُشْبِهاً للمحدثات، وإذا كان مشبهاً للمحدثات كان مُحْدَثاً، وإذا كان محدثاً كان مصنوعاً، فتعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً. فصحّ أن الله شيءٌ لا كالأشياء.
ولا يلزم على هذا قول من يقول: إنه جسمٌ لا كالأجسام؛ لأن الجسم هو الطويل العريض العميقُ، الشّاغل للمكان، وإذا كان بهذه الصفة كان جسماً، وإذا كان جسماً كان مُحْدَثاً؛ لأن جميع الأجسام لا تتعرَّى من الأحوال الحادثة التي هي الحركةُ والسّكونُ والزِّيادةُ والنُّقصانُ، وإذا كان كذلك كان محدثاً. وإذا لم يكن طويلاً عريضاً عميقاً محويًّا بالجهات شاغلاً للمكان لم يكن جسماً، فبطل تعلُّق من تعلَّق بهذا، وصحّ أن الله ليس بجسمٍ ولا عرضٍ.(1/136)
فصل في الكلام في أن الله حي قادر
اعلم أنا لما رأينا المصوَّرات في الشاهد على ضربين: فمصوَّرٌ حيٌّ قادرٌ، ومُصوّرٌ غيرُ حيٍّ ولا قادرٍ. ورأينا المصوَّرات غير الحيوان التي ليست بحيَّةٍ ولا قادرةٍ لا تتم ولا تقع إلا من حيٍّ قادرٍ، ورأينا الأموات وجميع الجمادات لا فعل لها، فعلمنا أن الله أولى بأن يوصف بالحياة والقدرة من الذي ليس في فعله حياةٌ ولا قدرةٌ، فصح أن الله حيٌّ قادرٌ.
ودليل آخر: أنا لما رأينا هذا الصّنع دائم التّدبير حَسَن الصُّورة والتّقدير، استدللنا بذلك على حياة اللطيف الخبير.
فإن قيل: فإذا كان الله حيًّا قادراً، وكان العبدُ حيًّا قادراً، فما الفرق بينهما؟
قلنا: إن الله تعالى حيٌّ لنفسه قادرٌ لنفسه، والعبدُ حيٌّ بحياةٍ هي غيره، قادرٌ بقدرةٍ هي غيره وهي الاستطاعة. وليس العبدُ يُسمّى حيًّا قادراً إلا على المجاز في بعض الوجوه، وإنما هو مُحيا ومُقدرٌ؛ لأن الله تعالى جعله حيًّا قادراً، وجعله سميعاً بصيراً. ألا ترى أنه خلق له آلة السّمع والبصر، قال عزّ من قائلٍ: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}[الإنسان:2]، والله سميعٌ بصيرٌ على الحقيقة، حيٌّ قادرٌ على الحقيقة.(1/137)
وحياةُ العبد، وقدرته ناقصتان؛ لأن حياته تعود إلى الموت، وقدرتُهُ ترجع إلى العجز. ألا ترى أنه لَوِ اجتمع الخلقُ، وتظاهروا على أن يخلقوا بعوضةً، أو أن يحييوا ميِّتاً أو يدفعوا الموت عمّن أراد الله موتهُ ما قدروا ولا استطاعوا ذلك، فصحّ أن الله الحيُّ القادرُ على الحقيقة، وغيره حيٌّ قادرٌ على المجاز في بعض الوجوه، فهذا الفرق البيِّنُ.(1/138)
فصل في الكلام في أن الله عالم حكيم
اعلم أنا لما رأينا هذا العالم قد قُدِّرَ وجُعلَ كلُّ شيءٍ منه في موضعه، وأُعِدَّ كلُّ أمرٍ منه لشأنه، ورأينا هذا الصُّنع المشاهد حسن التقدير، مُحكم التّدبير، لا خلل فيه ولا تفاوت؛ علمنا أن صانعه عالمٌ حكيمٌ.
ونظرنا في خلق الإنسان، ورزقه، من ابتدائه إلى انتهائه، فإنه عندما تحمله أُمّهُ ينقطع عنها الحيضُ ليكون الدّمُ رزقاً له، كما يكون مح البيضة رزقاً للفرخ في وسط البيضة المحضونة، فإذا ولد أحدث الله له رزقاً في ثَدي أمّهِ لم يكن من قبلُ، ويولد وقد جعل الله له آلة لا يستعملها في الحال، ولا يستغني عنها في المآل، فدلّ ذلك على أن صانعه عالمٌ حكيمٌ.
ودليل آخر: أنا نظرنا إلى الآدميين، وإلى ما يملكون من الحيوان، فإذا هم لا يَشْتَبِهُ منهم اثنان في صورة الوجوه ولهجة الأصوات، وكذلك لا يشتبه من الأنعام والخيل والدوابّ اثنان، على كثرتهم وسعتهم.
وبيان العلم في اختلافهم أن الله لما كان عالماً بكل معلوم لم يشتبه من النّاس اثنان، ولا يشتبه مما يملكون ëن الحيوان اثنان، قال عزّ من قائلٍ: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك:14].(1/139)
ووجه الحكمة أنه لو اشتبه من الناس رجلانِ أو امرأتانِ لوقع الفساد؛ لأنه لو غاب أحدهما فأتى شبيهُهُ إلى امرأة الغائب لأفسد في زوجته وماله، وكذلك لو اشتبه امرأتانِ لأشكل أمرهما على زوجيهما، ولَمَا عرف أحدهما زوجته من زوجة الثاني. وجعل الله اختلاف صورة الوجه للنهار، وجعل اختلاف الأصوات لليل، وكذلك فرق بين البهائم، ولو اشتبه اثنان من الثمانية الأزواج، والخيل، والبغال، والحمير، لدخل على مالكها الضّررُ ولادّعى الشيءَ غيرُ مالكه. ولما لم يدخل على أحدٍ ضررٌ في اشتباه الطير والسّباع والسّمك أمكن فيهما التشابه، فهل يدبر هذا ويُقدّرهُ (ويُحكمهُ) إلا عالمٌ حكيمٌ؟
وكذلك القولُ في السّميع البصير أنه بمعنى العليم الحكيم.(1/140)