وقال الهادي إلى الحق عليه السَّلام في كتاب المسترشد: (فلما أن وجدت العقولُ والحواس أجساماً مثلها، مُصوَّراتٍ في الخلق كتصويرها، وأعراضاً لا تقوم إلا بغيرها، استدللت على الفاعل بفعله) فدلّ كلامُهُ هذا على أن العقول والحواس تُدْرِكُ الأجسام والأعراض؛ لأنه عطف الأعراض على الأجسام بواو النّسق، وإعرابُها إعرابُها. وقوله: (أجساماً مثلها مصوّراتٍ في الخلق كتصويرها) يُريد أنها مثلها في الحدث؛ لأنه احتج على أهل التشبيه بأن العقول والحواس لا تقع إلا على مثلها في الحدث، ولم يُردْ أنها أجسامٌ مثلها؛ ولأن العقل غيرُ الجسم.
وقد بيّن في المسترشد وفي مسائل الرازي أن العقل ليس بجسمٍ، وكذلك في الأحكام قال: (والنّوم المُزيل للعقل ينقض الطهارة) فصحّ أنه عَنَى به العرض؛ لأن القلب لا يزول بالنوم، فثبت أنه أراد أنها مثلها في الحِدث لا أنها جسم.
وأما قوله: (مصوَّراتٍ في الخلق كتصويرها)، فهو يُريد به الأجسام خاصّة، ثم عطف العرضَ على الأجسام بأنها مُدركةٌ، وأنها مثلها في الحدث لا أنها جسم. ويوضح صحة ما ذهبنا إليه قول أمير المؤمنين عليه السَّلام في الدُّرة اليتيمة قال: (لأن الصّفةَ على نفسها تَدلُّ وفي مثلها تًحُلُّ).
قوله عليه السَّلام: (وفي مثلها) يريد في الحِدث لا أنها مثل الجسم في الجسميَّة. وقوله: (تَحُلُّ) يدلُّ على أن الأعراض تحلُّ (الأجسام).(1/126)
وقال السيد أبو طالب عليه السَّلام ردًّا على من اعتقد الرّؤية فقال: لأن الرائي بالبصر إنما يَرى الشيء إذا كان مقابلاً له، أو في حكم المقابل، كما يَرى وجهه في المرآة، أو كان حالاًّ فيما قابله، كما يَرى السواد في الجسمِ الأسود إذا كان الجسم مقابلاً له.
وقال في شرح كتاب البالغ الْمُدرِك في الأعراض: (إنها تختلف في أنفسها، وتُدرَكُ في أَيْنِيَّتِهَا خلافاً لبعض أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم من العوام، وقد بيّنا فيما خالفوا. فصحّ أن جميع الألوان مرئيّة بالأعيان؛ وكذلك النّور والظّلمة القياس واحدٌ فهو سوادٌ وبياضٌ. (والشعاع جسمٌ لطيفٌ يُرى بالأعيان).
وأيضاً فإنه رُوي عن ابن عباس أن عبد المطلب بن هاشم مرَّ بولده عبد الله على يهوديّة يقال لها: فاطمة بنت مُرَّةٍ الخثعمية، وأن نور النبوءة في وجهه... الخبر، فدلّ على أن النّور يُرى. ورُوي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((التفكُّر حياةُ قلبِ البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور)) وهذا معروفٌ عند الناس، يقول القائل: رأيتُ ضياءَ القمر، ورأيتُ ظلمة الليل؛ قال الشاعر:
أيها العبد كن لما لست ترجو
من نجاح أرجى لِمَا أنت راج
إن موسى مضى ليقبس ناراً
من ضياءٍ رآه والليل داج
يقول: إنه لما رأى الضّياءَ حسبهُ ضياءَ نارٍ، فمضى ليقتبس من النّار.(1/127)
وقد قال القاسم بن إبراهيم عليهما السلام في ردِّه على ابن المقفع: وقد تَرى الأبصارُ إن أشرقت الأنوارُ فحينئذٍ تَرى الأشياءَ، وترى الظّلمة والضّياءَ وهو سوادٌ وبياضٌ، والشُّعاعُ جسمٌ يُرى بالأعيان.
وقد قال القاسم بن إبراهيم عليهما السلام: والحجة عليهم في أن الريح شيء غير المشموم أنا نشاهد الأترنجة في حال غضاضتها لها ريحٌ ثم تطيبُ فيبطل ذلك الرّيح، ويحدثُ لها ريح غيره، وعينها قائمة، فصح أن الذي بطل وأن الذي حَدَثَ عرضٌ في الأترنجة غيرها.
والحجة [عليهم] من كتاب الله قوله عزّ من قائلٍ فيما حكى عن يعقوب عليه السَّلام: {إِنّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنّدُونِ}[يوسف:94]، وفي هذا بيان وكفاية. وهو مُدْرَكٌ بحاسّة الأنفِ، والهواءُ هو الذي يحمله إلى الأنف، كما يحمل الكلام إلى الأذن.
وأما ما كان يتجزَّأ ويقوم بنفسه كالدُّخان والبخار وشبهه، فهو جسمٌ وله رائحةٌ. ولم تختلف الأمة في أن الريح يُدْرَكُ بحاسّة الأنف، بل هم مجمعون على ذلك.(1/128)
ومن المعقول المشاهد أن البهائم تعرف أولادها بالريح، وتفرق بين أولادها وبين أولاد غيرها، وكذلك السّباع تُدْرِكُ ما جعل الله لها فيه متاعاً بالرّيح من مكانٍ بعيدٍ؛ وهذا فيه كفايةٌ وبيانٌ. والطعوم أعراضٌ كالروائح، ألا تَرى أنك تجد ريح الأترنجة وتجد لها طعماً في ابتدائها؟ ثم تجد لها طعماً غيره في انتهائها؟ وكذلك سائر الكَرْمِ فإنك تجده في ابتدائه حامضاً، وبعد ذلك ممتزجاً، ثم تجده عند انتهائه حُلواً، وعينهُ قائمةٌ، فصحّ أن هذه الصفات التي تحدُثُ وتبطل شيئاً غيرها وأنها مُدْرَكَةٌ بالفمِّ، ولو كانت الحموضة والحلاوة وأشباههما وصف الواصف لا غير لَمَا كان أحدٌ يفرقُ بين الحلوّ والحامضِ، ولو لم يكن مُدْرَكاً بحاسّة الفم لكان الإنسان يجد طعم الشيء ويعلمُهُ بغير الذّوقِ، ألا ترى أنه لو لَمَسَ جسماً أو نظره أن ذلك لا يؤدي إلى علم الطعم، ولمَّا كان يجدُ طعم الشيء إذا ذاقهُ عَلِمَ أنه أدركه بحاسّة الذّوق، فصح أن الطّعم عرضٌ قائمٌ في المطعوم ومُدْرَكٌ بحاسّة الذَّوق، وقد قال الله تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ }[محمد:15]، فصحّ أن له طعماً سواه؛ ولأنه قد يتغيّر الطّعم واللبنُ بحالِهِ في لونه وجنسه واسمه.(1/129)
والحرارة والبرودة أيضاً حالتان يَعْتَوِرَانِ الجسم، تَحْدُثُ حالةً وتبطل أخرى والجسم قائمٌ بعينه، وهذه كلها مُدْرّكَةٌ باللمس، وقد قال القاسم عليه السَّلام في جواب الملحد: (اعلم أن طرق العلم بالأشياء مختلفةٌ، فمنها ما يُعرفُ بالحسّ، ومنها ما يعرف بالنفس، ومنها ما يُعرف بالعقل، ومنها ما يُعرفُ بالظنِّ والحسبانِ.
فأما ما يُعرفُ بالحسِّ فطرقه خمسٌ: سمعٌ، بصرٌ، شمٌّ، ذوقٌ، لمسٌ؛ فالسمع طريق الصّوت. والبصر طريق الهيئات والألوان. والذوق طريق الطّعوم. والشمّ طريق الروائح. واللمس طريق اللين والخشونةِ ...إلى قوله: ولو حاولتَ كل عِلْمٍ من غير طريقه لَعسُرَ عليك، وكنتَ كمن طلب علم الألوان بالسمع وعلم الذّوق بالعين).(1/130)