ودليل آخر: أن البُسرة لما رأيناها خضراءَ، ثم رأيناها حمراءَ، ثم رأيناها صفراء، وعينها قائمة، فلو كان اللونُ يُعلمُ ولا يُرى لَمَا فَرَقَ من ينظر البُسرة بين الخضرة والحمرة والصفرة، إذِ البُسرة قائمةُ العينِ، والألوان يحدث بعضها ويبطلُ بعضها، فلو فُرقَ بين الخضرة والحمرة والصفرة بغير النظر لصحّ ما قالوا. ولَمَّا صح أنه لا يُفرَّقُ بين هذه الألوان إلا بالنظر صحّ أنها مرئيّةٌ.
فإن قالوا: أوجدُونا شيئينِ -في مكانٍ واحدٍ- جسماً ولوناً، فلا يُشاهد غير الجسم الملوَّن.
قلنا: أما قولكم أوجدونا شيئين في مكان واحدٍ، فإن كنتم أردتم أن نُثبتَ لكم شيئين: جسماً وعرضاً، فقد بيَّنا ثبوت العرض، واحتججنا عليه بما فيه كفايةٌ، وإن كنتم أردتم أن نُوجدَكُمْ شيئين قائمين بنفوسهما شاغلين للمكان، فإن العرض لا يكون قائماً بنفسه شاغلاً للمكان، وإنما هو قائم في الجسم، صفةٌ للجسم، ولا يقوم بنفسه فيكون شيئاً شاغلاً للمكان، فلا حجّة لهم بهذا السؤال.(1/121)


والحُجّة من كتاب الله على صحّة ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}[البقرة:67-69]، فعرّفهم الله بذاتها، وبجميع صفاتها، فكان مما وصفها به اللون، فصحّ أنّه شيءٌ وأنه مرئيٌّ، إذ لو لم يَرَوا لونها لَمَا زالت عنهم الشبهة، ولَبَقِيَتْ الجهالةُ، ولو لم تكن الصفرةُ مرئيّة لَمَا فرقوا بين الصفرة وغيرها من الألوان، فلما وصفها الله بالصّفرة، وبالغ في صفتها بالفقاعة -فلم يكونوا يبلغون إلى معرفة هذه الصفة إلا بالنظر- صحّ أنها مرئيّةٌ.(1/122)


ويكفي من هذا الاحتجاج أن الأعمى لو لمس البقرة لَمَا عرف لونَها، فسقط قولهم: (إن اللون يُعلمُ ولا يُرى). وأيضاً فإن الله أرسل موسى عليه السَّلام إلى فرعون وملائه بمعجزتين إحداهما جسمٌ، والأخرى عرضٌ، فقال تعالى فيما حكى عنه: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}[الأعراف:107،108]، فالجسمُ الثعبانُ، والعرض بياض اليَدِ، فبيّن أنه مرئيٌّ بقوله: {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}، فمن قال: (إن اللونَ لا يُرى بالأعيان) فقد أكذب القرآن، وكفر ببعض آيات الله، ومن كفر ببعضها فقد كفر بكلها، وقد قال تعالى في آية أخرى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا}[النساء:151،152]، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((فاتقوا النّار، واتّقوا النّساءَ ، واتَّقوا الغَضبَ، فإنه جمرةٌ يتوقّد في قلب ابن آدم، ألا ترون إلى انتفاخ أوْدَاجِهِ، وحمرة عينيه)) فصحّ أن الحمرةَ تُرى، وإجماع الأمةِ أيضاً (يَحُجُّهُم)، فإن الأمة أجمعت على رؤية الألوان.(1/123)


ويدل على رؤية الألوان قول القاسم بن إبراهيم عليهما السلام في المسترشد في الرد على من زعم أن الله يُرَى يوم القيامة: (ويقال لهم: هل يدرك البصرُ إلا لوناً، أو شخصاً؟) وكرّرنا القول برؤية اللون مراراً، وإجماع الأمة أيضاً (يحجهم). وقال أمير المؤمنين عليه السَّلام في خطبته التي وصف فيها الطاووس: وإذا تصفّحتَ شعرةً من شعرهِ أرَتْكَ حمرةً ورديّة، وتارةً خضرةً زبرجديَّة، وأحياناً (أرتك) صفرةً عسجديَّة. وقال عليه السَّلام في خطبة التوحيد: وكلُّ سميعٍ غيرُهُ يخفى عنه غميض الأصوات، ويصمّهُ كثيرُها، ويذهب عنه ما بَعُدَ منها، وكل بصيرٍ غيرهُ، يَعْمَى عنه خفي الألوان ولطيف الأجسام.
وأجمعت الأمة على رؤية الألوان إلا من نفى الأعراضَ أصلاً، وهو هشام بن الحكم، وأبو بكر الأصم، فإنها عندهم أجسامٌ، ولا ينكرون رؤيتها.
واختلف أهل الكلام في لون الماءِ. فقال قوم: لونُهُ أبيض. وقال قوم: لونه أسود. وقال قوم: ليس له لونٌ، وهو يَتلوَّنُ مع الأشياء.
واستدل من قال: (هو يتلون مع الأشياءِ) أنه إذا جُعلَ في أُجَانَةٍ خضراءَ رُؤي أخضر، وإذا كان في بيضاء رُؤي أبيض وأشباه ذلك.
وقال من زعم أن لونه أسود: إنه لما رؤي الكثير منه أسود، كالذي يكون في الغدير العظيم، والبحر، والبئر العميقة، عُلِمَ أن لونه أسود.
واستدل من يقول: (إن لونه أبيض) بأنه إذا رُمي به في الهواء أنه يُرى أبيض. فلما كان كل هؤلاء لا يستدلون عليه إلا بالنظر عُلِمَ أنه مرئيٌّ.(1/124)


وللأئمة " أقوال تدل على صحة ما ذهبنا إليه؛ منها قول القاسم بن إبراهيم عليهما السلام في مناظرته للملحد: (فالبصر طريق الهيئات، والألوان). وقال في ردِّه على المجبرة: والعقل رَوحانيٌّ [لطيف] لا يُرى بالعيون، لأنه ليس بشبحٍ ولا لونٍ ولا جسمٍ. وقال عليه السَّلام في ردِّه على الملحد: على أنا نجد الصُّورَ والهيئات والألوان والصِّفات بعد أن لا نجدها فيها، ووجودُ الشيءِ بعد عدمه أدَلّ الدّلالة على حدوثه، فحدِّثني عن الصورة من أي شيءٍ حدثت؟
فإن قلت: إنها قديمةٌ أحَلتَ، وذلك أنها لو كانت قديمةً لكانت في هذا المُصَوَّرِ الذي ظهرت الصورةُ فيه أو في عُنصره الذي يُسمّونه هَيُولَى. فإن كانت في هذا المصوَّر بانَ فسادُ قولِكُم ودعواكم، إذ قد نجده على خلاف هذه الصّورة، وإن كانت في الذي تسمّونه هيولى فلا بدّ إذا ظهرت أن تكون قد انتقلت عنه إلى هذا.
فإن قلتَ: انتقلت أحَلْتَ، لأن الأعراض لا يجوز عليها الانتقال، على ان في الصّورة ما يُرى بالعيانِ، فإن كانت متنقّلة فما بالها خَفِيَتْ عند الانتقال، وظهرت عند اللبْثُ.(1/125)

25 / 115
ع
En
A+
A-