وأيضاً فإن الكفار جحدوا نزول القرآن، وقد حكى الله قولهم، فقال تعالى: {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ}[يس:15]، وقال تعالى حاكياً قول الوليد: {ثُمَّ نَظَرَ ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ، إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ ، سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}[المدثر:21-26]، وقال تعالى: {إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}[الأنعام:91]، ففي بعض ما هاهنا كفايةٌ (وبيانٌ).(1/116)
وقد رَوى القاسم بن إبراهيم عليهما السلام عن أمير المؤمنين عليه السَّلام أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم أنزلت: {الم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ}[العنكبوت:1،2]؟ فأخبر بذلك. ثم قال له: ((فلا يكونن خصومك أولَى بالقرآن منك ، فإن من الفلج في الدنيا أن يخالف خصمك سنة رسول الله، وأن تخالف القرآن)). وجميع الأئمة، والأمة مجمعةٌ على أن هذا القرآن الذي مع الناس؛ هو القرآن الذي أنزله الرحمن، على نبيئه صلى الله عليه وآله وسلم. إلا فرقة من فرق المجبرة فإنهم قالوا: إن القرآن معنًى في النّفس، وهذا دليلٌ عليه. فصحّ أن القرآن هو هذا الذي مع النّاس، وهو مع الملَك الأعلى، كما هو مع من يحفظه من الملائكة، وغيرهم من المكلَّفين المؤمنين.(1/117)
فإن قال قائلٌ منهم: إذا كان هذا القرآن هو فِعل الله، فأخبرونا عن الصّلاة فِعلُ من هي؟ فإن قلتم: هي فعلُ الله، فكيفُ يُثيب على فعله؟ وأيضاً: فقد قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ }[المؤمنون:2]، فنسبها إلى المؤمنين. وإن قلتم: هي فعلُكُم وفعل الله، فقد صِرتم شُركاء لله في فعله. وإن قلتم: هي فعلُكُم أوجبتم أن القرآن فعلُكُم. فنقول: الصَّلاةُ هي نيَّتنا وقيامنا وتكبيرُنا وقراءتنا وركوعُنا وسجودُنا وتسبيحُنا وتشهدُنا وتسليمُنا، وليس القرآن في ذاته بصلاةٍ، إذ ليس كل من قرأ القرآن بمصلٍّ، فصحّ أن صلاتنا هي فعلنا ولا يتم فعلنا الذي هو الصلاة إلا بقيامنا بفعل الله وقراءتنا له. كما أن الزكاة فعلنا، ولا تتم إلا بحصول المزكَّى، وهو من فعل الله، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ }[المؤمنون:4]، فصحّ أن الزكاةَ فعلُنا، وهي النيَّةُ وإخراجُ ما أوجبَ الله في الأموال، وهو يُسمّى زكاةً على المجاز، وكذلك الصّدقة، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ }[التوبة:60]، فسمّى الْمُخْرَجَ صدقةً ثم قال: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ}[النساء:114]، فبيّن أن الصّدقة هي الإخراجُ، فصحّ أن الزكاة هي فعل المزكِّي على الحقيقة، وأن الْمُخْرَجَ يُسمَّى زكاةً على المجاز. وقد يوجد في كتاب الله أشياء تُسمّى بأسماءٍ على الحقيقة، وأشياءَ تُسمّى بأسماءٍ على المجاز من ذلك قول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ }[الأحزاب:33]،(1/118)
وقوله تعالى: {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ }[الأحزاب:53]، والبيوتُ للنبيء على الحقيقة، وبيوت نسائه على المجاز. وكذلك قال عزّ من قائلٍ: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ }[الكهف:79]، فنسبها إليهم. ثم قال تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ }[الرحمن:24]، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ }[آل عمران:109]، وقال تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [الأنفال:28]، فالملك لله على الحقيقة، ولأن السيد يملك عبده وما ملَك.
ومما يدل على حلول العرض في الجسم أن الحركة والسكون لا يخلو العالَم منهما، وهما أكبر الحُجَج على حِدَثِ العالَم، فلما ثبت أن الحركة والسكونَ حالتانِ قائمتانِ في العالَم صحّ أن لهما محلاًّ وشَبَحاً. ومما يُؤيد ذلك قول أمير المؤمنين عليه السَّلام في الدرّة اليتيمة: (كلُّ معروفٍ بنفسِهِ مَصنوعٌ، وكُلُّ قائمٌ في سواهُ معلولٌ). فثبت أن الأعراض خالَّةٌ في الأجسام، وبطل قولهم: إن العرض لا يَحِلُّ ولا يُحَلُّ ولا يُوهَمُ.(1/119)
وأما الحجّة في أن الألوان شيءٌ فنقول: إنا لما رأينا الشَّعر الأسود في حالةٍ أسودَ، ثم رأيناه في حالةٍ أبيض، وعينه قائمةٌ، علمنا أن البياضَ شيءٌ، وأن السواد شيءٌ، وأنهما ضِدَّانِ، يبطُلُ أحدهما بحضور الآخَرِ، ولا يكون العدم ضِدًّا لغيره يبطله، ولا يكون أيضاً العدمُ يُحدِثُ ويُبْطِلُ، فكذلك البُسرة تكون تارةً خضراء، وتارة حمراء، وعينها قائمة، فصحّ أن اللونَ شيءٌ. ومما يؤيد ذلك قول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}[الروم:22]، فَذَكَرَ أن اللونَ من آياته، فصحّ أنه شيءٌ؛ لأنه لا يكون شيءٌ من آيات الله عدماً. وأيضاً فإن الأمة مجمعةٌ على ذلك، فبطل قولهم: إن الصفة هي الوصفُ، ولا صفةَ في الجسم غيره. وثبت أن في الجسم صفةً غيرُ حَالَّة فيه غير الوصف. وقال علي بن الحسين عليهما السلام في توحيده: (ضَادَّ الظّلمةَ بالنُّور، والْجِلاَيَةَ بالْبُهمِ، والخشونة باللينِ، والصَّرد بالحرور).
والدليل على أن اللون يُرى بالأعيان أن الأعمى لا يتأتَّى له أن يصف شيئاً بلونِهِ، وكذلك من لا يَرى الشيءَ لا يصفُهُ بلونٍ، ولا يُوصل إلى معرفة اللونِ من طريق السّمع، ولا من طريق الشمّ، ولا من طريق الذّوق، ولا من طريق اللمس، فلما لم يكن يُوصلنا إلى معرفة اللون من أيِّ هذه الطرق، وكانت تحصل معرفة اللون من طريق النظر؛ عُلِمَ أنه يُرى بالأعيان.(1/120)