قال أمير المؤمنين عليه السَّلام في الدرة اليتيمة: (ما تُخُيّلَ فالتشبيهُ له مُقَارِنٌ، وما تُوهِّمَ فالتنزيه له مباينٌ) وهو يريد بذلك أن الله تعالى لا يُتخيَّلُ، ولا يُتَوَهَّمُ. فإذا كان العرضُ بهذه الصفة، فالتشبيه له مباينٌ، والتنزيه له مقارنٌ، ولم يقل أحد بمثل هذه المقالة غير هذه الفرقة. ولأنهم أقرُّوا بالعرض ثم نفوه؛ فقالوا: الجسم هو الهواءُ وما حوى من الأرض والسماءِ وما بينهما من جميع الأشياءِ، فإذا لم يكن في الهواء، ولا في الأرض، ولا في السماء، ولا بينهما، ولا هو من الأشياء التي بينهما، فليس هو بشيءٍ يُعلم فمن هاهنا نفوهُ.(1/106)


واعلم أن هؤلاء القوم قد أصَّلَ لهم مشايخُهُم في الكلام أصولاً، وبنوا عليها، وعرفوها وأنكروا سواها، وصارت ديناً لهم لا يرون الخروج منه أصلاً، ولا يقبلون فيه حجّة مُحتجٍّ عليهم، بل ينسبون من قال بغير قولهم إلى الجهل والخطأِ، ولا يرون أن تُنقضَ أصول مشايخهم التي أصَّلوها، ولو كانت ناقضةً لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يلزمهم ما يُحتج به (عليهم) (من كتاب الله)، ولقد سمعتُ رجلاً منهم يقول: إن القرآن خلقه الله في غير محلٍّ، وليس يتعلّق بحيٍّ ولا محلٍّ؛ فافتتحت عليه الحجّة من كتاب الله تعالى بقوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ}[العنكبوت:49]، فقال: هذا فرعٌ، وقام ولم تلزمه حجة القرآن، وذلك أنهم استكثروا عِلمَ نُفوسِهِمْ، واستقلوا عِلْمَ أهل بيت نبيئهم الذين هم في عصرهم، وجهلوا علم المتقدِّمين منهم. وإذا علموا من كتاب الله، أو من سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أو من أقوال الأئمة الهادين شيئاً ينقض عليهم أُصولهم تأوَّلوهُ على ما يوافقهم.(1/107)


وقد روي عن جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام: أنَّ سُديراً الصَّيرفي دخل عليه فقال: ما بال هذا الاختلاف الذي نسمعه بين أهل النِّحلة من الشيعة، وكيف اختلفوا وفي أيديهم الكتاب، والسُّنة، وأنت بين ظهرانيهم، وأمثالك من الأئمة؟ فأطرق ملياً ثم قال: يا سُديرُ، أمَّا قومٌ ردُّوا ما سمعوا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مقاييس عقولهم استصغاراً لكلام أئمتهم، واستكباراً لأنفسهم، وإني لأحدِّث أحدهم بالحديث من العلم، فلا يخرجُ من عندي حتى [يكون] قد تأوَّلَهُ وفسّرهُ على محبوب نفسه، وقاسه بتمييزه وفكره، ويزعم أن لذلك باطناً غير ظاهره، وأن الباطنَ هو الذي كُلِّفَ معرفته، حتّى كأنّ الله عزّ وجلّ قد وَكَلَ جميع الخلق إلى نظره وتمييزه).
فمن أصولهم التي أصّلوها أنهم قالوا: إن العرض شيءٌ موجودٌ، وقالوا: ليس بحالٍّ في الأجسام، ولا هو يُوهَمُ ولا يُحسُّ. وقالوا: إنهم يسمعون المتكلِّم سماع حسٍّ، ويسمعون الكلامَ سماع علمٍ. وقالوا: ليس يُسمع القرآنُ، وإنما يُسمع القارئُ، وهذه الجملة لا خلاف عندهم فيها. وإنما اختلفوا في نزول القرآن، فقال بعضُهُم: ليس هذا الذي مع الناس القرآن، وإنما هو دليلٌ عليه.
وقال بعضهم: هو القرآنُ، لكنّه لا يُسمع، وإنما يُسمع القارئُ، ويُعلم القرآن.
وقالوا جميعاً -إلا الأقلّ منهم: القرآن في قلب الملَك الأعلى حَالَةٌ له، صفةٌ ضروريّةٌ لا يفارقه. والعرض الضروريُّ عندهم هو الذي لا يفارق شبحه.(1/108)


ثم نقضوا هذه الأصول فقالوا: العالَم هو الهواء، وما حوى من الأرض والسماءِ وما بينهما من جميع الأشياءِ، فنفوا العرضَ بعد ما أثبتوهُ، إذ جعلوا جميع العالَم وما كان فيه جسماً، فنقضوا قولهم: (إن العرض شيءٌ موجودٌ)، وقالوا: القرآن في قلب الملَك واللونُ في الملوَّن، فأثبتوا حلول العرض في الجسم ونقضوا قولهم: (إن العرض لا يحلُّ في الجسم). وقالوا: إن الله تعبّد خلقه بمعقولٍ ومسموعٍ، فنقضوا قولهم: (المسموعُ هو المُسمِعُ)؛ ولأنّهم لا يقولون: إن الله تعالى تعبّد خلقه بمسمُعٍ.
ومن الرد عليهم في قولهم: ليس العرض بحالٍّ في الجسم: من كتاب الله تعالى قولُ الله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}[البروج:21،22]، وقوله: {وَالطُّورِ ، وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ، فِي رَقّ مَنْشُورٍ} [الطور:1ـ3]، وقال: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ}[العنكبوت:49]، وقال تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ}[الفتح:26]، وقال: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ }[البقرة:10]، وقال: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ }[الفتح:18]، وقال: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } [الحشر:2]، فدلّت هذه الآيات على أنّ العرض يحلُّ في الجسم؛ لأن كون العرض في الجسم يوجب حلوله فيه؛ لأن (في) حرفٌ يوجب التضمين، ومحلُّ الشيءِ في الشيءِ.(1/109)


وقد استدلت المشبّهة على قولهم: (إن الله في مكانٍ) بقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}[الملك:16]. وتأويل هذه الآية عندنا: أم أمنتم إله من في السماء. وتأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ }[الزخرف:84] أنه إله من في السماء، وإله من في الأرض. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال حبّة خردلٍ من كبرٍ )). وقال أمير المؤمنين عليه السَّلام: (لأن الصِّفةَ على نفسها تدلُّ وفي غيرها تَحُلُّ). وقال القاسم بن إبراهيم عليهما السلام في القرآن: سَماويٌّ أحلّه الله برحمته أرضهُ. وقال الهادي إلى الحق عليه السَّلام في صفة الإنسان: ثم علق في صدره قلباً، وركّب فيه لبًّا، وجعله وِعَاءً للعقل الكامل، وحصناً للرُّوح الجائل.(1/110)

22 / 115
ع
En
A+
A-