ودليل آخر: أن أكبر هذه النيِّرات الشّمسُ والقمرُ، فإنهما يُصابانِ في أنفسهما بالكسوف، فيدخلانِ في باب من يُرْمَى بالمصائب والحُتُوف، وينقص القمر في كل شهرٍ حتّى لا يبقى منه إلا الأقلُّ ثم يعود فيكون كاملاً. فلو كانَا خالقينِ، أو قادرينِ، أو مدبِّرينِ، لأزاحَا عن أنفسهما الضّرر، ولتحصّنا عن النقصان والْغِيَرِ، فلما كانت لا تملك نفسها، ولا تدفع عنها شَرًّا، ولا تدفع مكروهاً ولا ضرراً، كانت عن ملك غيرها أعجز، وعلمنا أنها مصنوعةٌ مبدوعةٌ لتغيُّرها وانتقالها، وضَعفها ونقصانها وزوالها؛ ولأنها بغيرها محدودةٌ، وحَالَّةٌ ومتحركةٌ ومحدودة، وهذه الحالات دالّةٌ على حدوثها، فبطل ما قالوا.(1/81)


فصل في الكلام في الأرض
ونظرنا إلى هذه الأرض، وما فيها من الطول والعرض، وكم عسى أن نَصِفَ مما قد جعل الله فيها من العجائب، والأمر البديع والغرائب. قد وضعَ كلّ شيءٍ منها في مكانه، وأعدّ كُل أمرٍ منها لشأنه.
وجملة الأمر أن كل شيءٍ منها قد جُعِلَ لمصلحةٍ -عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها- من الحيوان والطِّين والماء والأشجار والحجارة -وما كان من جنسها- والنار. ونظرنا فإذا هي بعيدةُ الأطراف، ومتراكمة الأرداف، ثقيلةٌ طويلةٌ، عريضةٌ عميقةٌ، ومن بُعْدِهَا أنه ما أخبر أحدٌ من الآدميين أنه بلغ حدّها، إلا ما حكاه الله من ذي القرنين، وكان ذلك معجزاً، وكان له من الله تَأييداً بسبب نبيءٍ كان معه. ومن عُمقها أنه ما خرقها أحدٌ؛ وقد قال الله تعالى: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً }[الإسراء:37].
ونظرنا فإذا هي على الماء مبسوطة، وفي الهواءِ معلّقةٌ منوطةٌ.
وممّا دلّنا على أنها على الماء مبسوطةٌ أن البحار بها محيطةٌ، وأنها تتفجّر الأنهار من خلالها، ويُوجد الماءُ أينما حُفِرَ من سهولها، وجبالها، قريباً وبعيداً، إلا في المواضع التي لا يمكن حفرها لشدّتها، ولِبُعدِ مائها، وارتفاعها، وقد قال الله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ }[هود:7].
ومما يدل على أنها في الهواء معلّقة منوطة أنها إذا وقعت فيها زلزلةٌ، أو تردّت من جبالها صخرةٌ عظيمةٌ رجفت، وتحركت، وأجابت.(1/82)


ومما يدل أيضاً على أنها معلّقة منوطة أنا وجدنا لها جهةً واحدةً، وهي الجهة العُليا، فعلمنا أن لها جهةً سُفلَى؛ وهي حدُّها الأسفل، ولا يكون شيءٌ له أعلى إلا وله أسفل، وقُدَّام وخلف، ويمين وشمال.
ونظرنا وإذا هي قد قُدِّرت على أربعة معانٍ وهي: الِّلينُ، والخُشُونةُ، والحرارةُ، والبرودةُ؛ وإذا هي لم تخلُ من هذه الأربعة المعاني.
ونظرنا فإذا الزمان على أربعة معانٍ: صيفٌ، وخريفٌ، وربيعٌ، وشتاءٌ. فالصّيفُ حارٌّ يابسٌ، والخريفُ باردٌ يابسٌ، والربيعُ حارٌّ رطبٌ، والشتاءُ باردٌ رطبٌ. ووجدنا الأجساد بُنيت على أربعة أمزاجٍ: مِرَّة صفراء، ومِرّة سوداء، ودم، وبلغم. فالصفراءُ حارّةٌ يابسةٌ تكثُرُ في الصيف، والسّوداء باردةٌ يابسةٌ تكثُرُ في الخريف، والدّمُ حارٌّ رطبٌ يكثر في الرّبيع، والبلغمُ باردٌ رطبٌ يكثر في الشتاء، فعلمنا أنها محدثةٌ مقدَّرةٌ، محكمةٌ مدبَّرةٌ، لظهور الصُّنع والتّدبير فيها.
ومما يدل على حدوثها أنها لا تخلو من الزيادة والنقصان، والتغيير في الأحوال والأعيان، وأنها لا تنفك من الأوقات والأزمان، وكما كان للأيام والليالي أولٌ وآخرٌ ثبت حدثُها، وإذا ثبت حدثها ثبت حدثُ ما لا ينفك منها.
والزّمان هو وقتُ حركة العالَم وسكونه، وقالت العلماءُ قبلنا: الزّمانُ مقدار الحركة، وقد أحسنوا فيه القول. ألا ترى أن السَّنَةَ هي مسير الشمس في البروج من الحَمل إلى الحَمل؟!(1/83)


وقال الجالينوس ومن قال بقوله من أهل الدّهر: الأربع الطبائع التي هي اللين، والخشونةُ، والحرارة، والبرودةُ؛ هي المدبِّرةُ بزعمهم، قالوا: والدليل على ذلك أن الإنسان لما كان لا يُدرِك إلا هذه الأربعة الأشياءَ كانت مدبِّرةً قديمةً.
وقالت الفلاسفة: الطبائع الأربع قديمةٌ، وخامسٌ معها هو خلافُها، وأثبتوا الحركات، وزعموا أن حركةً قبل حركةٍ ...إلى ما لا نهاية له.
وقال بلعام بن باعُورا: إن العالم قديمٌ، وله مدبِّرٌ بخلافه. وأثبت الحركات، إلا أنه قال: الحركةُ الأولى هي الحركة الأخرى مُعادةٌ.
والحجة عليهم أنهم قد أقرُّوا بِحِدَثِ الحركات؛ لأن قولهم: (إن حركةً قبل حركةٍ) دليلٌ على حِدَثِ الحركات؛ لأنه إذا كانت الحركةُ الآخرةُ قبلها حركةٌ فهي محدثةٌ لتقدُّم غيرها عليها، وكذلك سائر الحركات. وكذلك قول بلعام: الحركة الأولى هي الحركة الأخرى معادة، فهذا إقرارٌ منه بحدث الحركات؛ لأن كل شيء له أولٌ وآخرٌ فهو محدثٌ. وقوله: (معادة) إقرار بأن لها مُعيداً. فلما كانت الحركةُ والسكونُ حالتينِ حادثتينِ، ثبت حدوث الطبائع؛ لأنها لا تخلو من أن تكون الحركة والسكون، أو تكون المتحرك الساكن. فإن كانت أجساماً متحركةً وساكنةً، فالحركةُ والسكون دليلٌ على حِدَثِهَا؛ لأنها لا تخلو من الحركة والسكون، وإن كانت الأعراضُ الحركةَ والسكونَ فقد بيّنَّا حِدَثَ الحركة والسكون؛ لأنَّا رأينا الشيءَ في زمانٍ ساكناً ثم رأيناه في زمانٍ متحركاً، ثم رأيناه متحرّكاً بعد السكون، فصحّ حِدَثُ الحركةِ والسكونِ، وهذا مشاهد بَيِّن لا إشكال فيه.(1/84)


ودليل آخر: أن كل واحدٍ من هذه الطبائع لا يخرج مما رُكِّبَ عليه من الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، وإذا كانت لا تخرج مما رُكِّبت عليه صحّ أنها لا تملك أنفسها فكيف تُدبِّر غيرها؟! وأيضاً فلها حدٌّ لا تتجاوزه، ولا تنقص منه، ولا تزيد عليه، وبعضُها ضِدٌّ لبعضٍ ومُعدِّلٌ لبعضٍ؛ فصح أنها لا تصنع شيئاً، وأن المضادَّ بينها والْمُعدِّلَ لبعضها ببعضٍ غيرُها، فثبت أنها مُقَدَّرَةٌ مُدّبَّرَةٌ، فبطل ما قالوا.
ونظرنا إلى ما أُعِدَّ في الأرض من النبات والماءِ، والمعادنِ والآلاتِ، وما خوّل سُكّانها من المنافع والأقوات، فإذا هي قد أُتقن خلقُها، وأُحسن رتقُها وفتقُها.(1/85)

17 / 115
ع
En
A+
A-