وقال محمد بن يحيى عليه السَّلام في كتاب الإيضاح: إن سأل سائلٌ فقال: هل يصح للجمادات فعلٌ من الأفعال، ويجوز ذلك في الاعتقاد والمقال؟ قيل له -ولا قوة إلا بالله: لا يصحّ الفعلُ من الجمادات إلا على مجاز الكلام، فأما الطبائع فمن ذي الجلال والإكرام، لِمَا في ذلمك من الفضل والإنعام؛ لأن الحيوانات إنما استقامت أرواحُها بطبائع الأطعمة والشّراب، وذلك من حكمة ربّ الأرباب، ومصلح الأسباب بالأسباب؛ لأن الأغذية لا تَعْقِلُ أعاجيب التدبير، ولا يُتِمُّ إصلاح الأمور وعجائب الحكمة والتصوير إلا الله العليمُ الخبيرُ. ألا ترى: إلى ما صنع من غذاء الأشجار بما نزل من الأهوية من الأمطار، وأجرى من العيون والأنهار في صلاح الحيوان والثمار، وجعل في الأشجار مداخل للمياه بمنزلة الحلوق والأفواه، فجعل لكلّ حبَّةٍ من الثمر مُستقى، وجعله للماءِ طريقاً، وأجرى ذلك بلطفِهِ في العروق، وجعلها بمنزلة الحُلُوق. وليس من طبع الماءِ أن يصعد عُلُوًّا، ولا يَسْمُو إلى أعالي الشجر سُموًّا، وإنما طبع على الثقل، والانحدار، وعلى الثبات في الأرض والقرار، فلمّا رأيناه يطلُعُ إلى بواسيق الأغصان، علمنا أنّ ذلك من الواحد المنّان الرحمن.
وكذلك فِعْلُ سيّدنا عيسى عليه السَّلام فليس منه، وإنما نُسبَ إليه، وإنما فِعْلُهُ: الحركاتُ والسُّكونُ والضَّميرُ، والتَّقليبُ للطين والتّصويرُ، وذلك فلا يوجد الحياةَ بعد الممات، ولا يُوجدُ الأرواحَ في الجمادات ...إلى آخر الكلام. ولا خلاف في ذلك عند أهل العدل والتوحيد من الزيدية والمعتزلة، وهو إجماع الأمة.(1/76)
فصل في الكلام في الأنوار واختلاف الليل والنهار
ونظرنا إلى تضادِّ الظُّلَمِ والأنوار، واختلاف الليل والنهار، وما في ذلك من النعمة السابغة، والحكمة البالغة، فإذا هو أمرٌ عجيبٌ، ونفعٌ قريبٌ، وكذلك ما نشاهده من سماءِ الدنيا؛ من ارتفاعها وصفائها، وسَعَتها وبهائها، وما فيها من النَّيِّراتِ -التي ملأَ ضياؤها ما بين الأرَضِينَ والسّماوات- من الشّمس والقمر والنّجوم المختلفات، فإذا فيها من عجيب الصنعة، وبديع الحكمة، ما لا يقدر مخلوقٌ على وصف عشير عُشرِهِ، لكن معرفة قليلة تجزئ عن معرفةٍ كثيرةٍ.(1/77)
ومن ذلك أن الشمس قريبٌ نفعها، بعيدٌ ضرّها، فإنها لمّا قُدّرت وجُعلت سراجاً -لمن في السماوات ومن في الأرض وما بينهما- وهَّاجاً جُعلت بعيدة المكان، لسلامة الأجساد منها والأعيان، ولدفع ضررها عن الأشجار والمياه والحيوان، ولو كانت قريبةً منها لأتلف شعاعُها الأبصارَ، ولأحرق لهيبُها الأجساد والأشجار، ولأزال بَرْدَ الماءِ وأيبس الأنهار. وقُدِّرتْ تطلُعُ حِيناً وتغرب حيناً لدفع هذه المضار، وإصلاح الحيوان والأشجار، وليستريح ويسكن بعد مغيبها أهل الحرص في العمل والإكثار، وجعل القمر، وفيه بعض الضِّياء لمن أراد السُّرى بالليل لبعض الأسباب، وليهتدى به عدد السنين والحساب. وجُعلت النّجوم إذا غابت الشّمس والقمر تَسُدُّ مَسَدًّا لمن احتاج إلى الذّهاب، وليهتدي بها في البر والبحر أهلُ الاغتراب، وجُعلت البروجُ الإثنا عشر مقدّرة، لا يختلف سيرُها، ولا يجتمع مفترقها، ولا يفترق مجتمعها، وجُعلت الشّمسُ تقطع البروج في سنةٍ من الحَمل إلى الحَملِ؛ تقطع في كُل يومٍ درجةً، والبرج ثلاثون درجة، فالبروج كلها ثلاثمائة وخمس وستون درجة كعدد أيَّام السَّنة. والقمر يقطع البروج كلها في شهرٍ، يقطع (في) كل يوم منزلةً، والبرج منزلتانِ وثلث. والزُّهرة تُقيم في البرج خمسة وعشرين نهاراً، وعطارد كذلك، وزحل يُقيم في البرج ثلاثين شهراً، والمشتري يقطع البرج في سنةٍ وشهرٍ، والمرِّيخ يقطع البرج في سنةٍ ونصفٍ. ومسير هذه النيِّرات السّبع التي هي: الشمسُ، والقمرُ، والزهرةُ، والمشتري، وزحلُ، والمريخُ، وعطاردُ، إلى جهة المشرق، والفَلك يدور بها إلى المغرب،(1/78)
وذلك يتبيَّن لك في أسرعها سيراً وهو القمر فكذلك سائرها، وقد مثل العلماءُ سيرها مثل دبيب النملة في الرَّحَا، فهي تسير ذات اليمين والرَّحَا تدور بها ذات الشمال.
فلما رأينا هذه النيِّرات قد وُضعت مواضعها، وأُعدّت لصلاح الحيوان، ورأينا فيها أثر الصنعة والتدبير، ودلائل الإنشاء والتقدير، علمنا أنها محدثةٌ.
وقد قال قوم: شيئانِ خالقانِ قديمانِ: نورٌ وظلمةٌ، فخالق خَيْرٍ وهو النّور، وخالقُ شَر وهو الظُّلمة، وقالوا: هما ممتزجان وغلَّبُوا الظُّلمة على النّور. قالوا: والدليل على ذلك أن الخير لمّا وُجِدَ ثبت أن له فاعلاً من جنسه، أو أرفع منه منزلةً، وأن الشرّ لما وُجِدَ ثبت أن له فاعلاً من جنسه، أو أبلغ منه منزلةً.
والحجة عليهم أنا وجدنا النُّورَ والظُّلمةَ متضادَّينِ، ووجدنا النّور يُزيل الظُّلمة إذا حضر، وتغشى الظُّلمةُ إذا غاب، ورأينا أحدهما يزول بحضور الآخر، ويحضر بزوال ضدَّه، فثبت أنهما محدثانِ ضعيفانِ عاجزانِ؛ لأن أحدهما يزول بحضور الآخر؛ ولأن أحدهما مغيِّرٌ للثاني، وإذا عجز عن نفسه وكان الآخر مغيِّراً له فهو عن خلق غيره أعجز.
وتبيّن فساد قولهم أنهم قالوا: النّورُ والظُّلمةُ ممتزجانِ، ومنهم من قال: هما منفصلان ومعهما ثالث مُعَدِّلٌ؛ والانفصال والامتزاجُ يدلاّنِ على الحِدَثِ؛ لأن الانفصالَ هو الانتقالُ؛ وهو حركةٌ، والامتزاج أيضاً المجاورةُ، وكل منتقلٍ أو مجاورٍ محدثٌ؛ لأنهما لا يتعرَّيانِ من الحوادث.(1/79)
ودليل آخر: أن كل ما كان له أوّلٌ وآخرٌ فهو محدثٌ، والنّور والظُّلمة لهما أوّلٌ وآخرٌ، ولا يمتنعون من أن يقولوا: أوَّلُ النهار وآخره، وأوَّلُ الليل وآخره.
ودليل آخر: أن الظُّلمة التي قالوا: هي تغلب النور وهي تفعل الشر فإذا كان النور مغلوباً كان ضعيفاً، والضَّعيف لا يكون خالقاً.
وأيضاً فإنا رأينا في الظُّلمة خيراً كثيراً -وصلاحاً للحيوان والأشجار- شهيراً، من ذلك: أن الليل يُبَرِّد حرارة الشمس، ويُعدِّل الزمان، وفيه يستريح الناس ويهدءون، وينامون ويسكنون، ولو كان النهار سرمداً إلى يوم القيامة لزال الصّلاح، وعدمت الرّاحةُ والفلاح. وإذا كان فعلهما لا يتم إلا بمُعدِّلٍ كانا أيضاً عاجزين عن الخلق؛ لأنهما إذا عجزا عن التّعديل، عجزا عن الخلق للدقيق والجليل، فبطل ما قالوا.
وقال قوم -وهم عُبّاد النُّجوم، وهم بعض البراهمة: العالَمُ قديمٌ، والمدبِّرات منه السبعة: الشمس، والقمرُ، والزهرةُ، والمشتريُّ، وزحلُ، والمرِّيخُ، وعطاردُ. والبروجُ الإثنا عشر: الحَمل، والثّور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسُّنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدّلو، والحُوت، هي بزعمهم المتحرِّكات بالخير والشرّ، والحياة والموت.
والحجة عليهم أنها تنتقل وتزول، وتغيب (وتحُول)، ويغيِّبها الأُفُولُ، وبذلك عابها إبراهيم الخليل صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّها تجري بها الفلك، وتحويها الحُبُكِ، وتنقصُ، وتزيدُ، وتتحرّكُ، وهذه الحالات كلها محدثةٌ، فوجب أن تكون هي في ذاتها محدثة؛ لأنها لا تتعرّى من هذه الحوادث.(1/80)