ودليل آخر: أن الصورة قد علمنا علماً ضروريًّا أنها حادثةٌ -لكونها بعد أن لم تكن- بالمشاهدة؛ لأن النُّطفةَ لا صورةَ فيها؛ ثم كذلك العلقة والمضغة، ليس فيهما صورة إنسانٍ، فحدثت بعد عدمها، فكان ذلك دليلاً مبيناً. وقد احتج الله عليهم، فقال عزّ من قائلٍ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[المؤمنون:12-14]، فلما كان له ابتداءٌ وانتهاءٌ كان محدثاً، وكذلك سائر المصنوعات، فصحّ الحِدَثُ وانتفى القِدَمُ.
والرد عليهم في قولهم: العالم وما تولّد منه حصل من الطبيعة الهيولية؛ أن يقال لهم: الطبعُ فعلُ الفاعلِ، وهو غيرُ الطّابع والمطبوعِ، كما أنّ الفعل فِعلُ الفاعل، وهو غيرُ الفاعل والمفعول، فصحّ أن الطبع في ذاته فِعلُ الفاعل، وإذا صحّ أنه فعل الفاعل صح أنه محدثٌ.(1/71)
ودليلٌ آخر: أن الطبيعةَ لا بُدَّ لها من أن تكون حيّةً قادرةً، أو تكون غيرَ حيّةٍ قادرةٍ. فإن قيل: هي حيّةٌ قادرةٌ. قلنا: هذا مُحالٌ؛ لأن النّخلة لو شُقَّ ساقُها أو موضعُ الطَّلْعِ منها، وحُشِيَ في جوفها رُطَبٌ لم يخرُج ذلك الرُّطب إلا بمخرجٍ حَيٍّ قادرٍ غيرها، فلو كانت النخلةُ حيّةٌ قادرةٌ لأخرجت ذلك الرُّطب من جوفها، ولكانت تطلُعُ في وقت خراجها، وفي غيره. وأيضاً فإن هذا الرُّطب الذي في النخلة وجدناه بعد أن لم نجده، ولا بُدَّ من أن يكون أوجد نفسه وهو معدوم، أو أوجده غيره. فإن قيل: أوجد نفسه، فلا بُدّ من أن يوجدها وهو موجود، أو يُوجد نفسه وهو معدوم، وإيجادُ الموجود مُحالٌ، وكذلك إيجاد المعدوم موجوداً مُحالٌ، فصحّ أنّه موجودٌ أوجده غيرُهُ، وصحّ أنه محدثٌ، وكذلك النّخلة محدثةٌ، وما جاز في النّخلة جاز في جميع العالم لِمَا يُوجد فيه من الزّيادة والنقصان، والتغيير والانتقال، وأنه لا يتعرَّى من الحالتين الحادثتينِ، فكلما وجدنا للواحد منه ابتداءً وانتهاءً كذلك جميعه؛ وما كان بهذه الصفات فهو محدثٌ، علماً عقلاً ضروريًّا. ومنهم من يثبت حدوث الصنع، ويُثبت له صانعاً قديماً؛ ويقول: إن الأشياءَ المصنوعةَ حدثت من الأصول الأربعة، أو الطبايع، أو العناصر، على اختلاف عباراتهم في ذلك؛ وبه قالت المطرفيّة، وليس للكلام معهم معنًى في أنه محدثٌ، وأنّ له مُحْدِثاً قديماً؛ لأنا نحن وهم مجمعون على ذلك.
وإنما الكلام معهم في قولهم: إن الأشياء حدثت من هذه الأصول بالتركيب لا بالقصد والعمد من القديم فيما يتولّد من هذه الأصول.(1/72)
فنقول: إن الأفعال لا تكون إلا لحيٍّ قادرٍ، والجمادات ليست بحيَّةٍ ولا قادرةٍ، فصحّ أنها لا فعل لها ولا تدبير.
ودليلٌ آخر: فنقول: أخبرونا عن الأصول الأربعة ما هي؟
فإن قالوا: الماءُ، والهواءُ، والنّارُ، والرّياحُ. قلنا: فهل هذه الأصول هي الفروع المتولّدة منها، أو غيرها؟
فإن قالوا: لا، أحالوا؛ لأن ابن الإنسان غيره، فضلاً عن أن يكون ناراً أو ماءً أو ريحاً وهواءً، فصحّ أن الفروع غير الأصول. وإذا ثبت ذلك وجب أن تكون الأصول التي ذكروا أنها تُحْدِثُ الأشياءَ موجودةً أو معدومةً.
فإن قالوا: هي موجودةٌ. قلنا: أين موضعها؟ فإن قالوا: في العالَم. قلنا: كيف يكون وجود الأصل في الفروع، هل يكون الأصل كامناً في الفروع أو ظاهراً فيها؟
فإن قالوا: هو كَامِنٌ فيها كالنار. قلنا: النّار فرعٌ حادثٌ في العُودِ؛ لأنّه لا يجتمع الماء والنّارُ في العود؛ لأن اجتماع المتضادّينِ لا يصحُّ، وليست النّارُ عندنا كامنةً في العود، ولا في الحجر.(1/73)
وغيرنا يقول: إنّها كامنةٌ فيهما كَكُمُون الزّيت في الزّيتون، والدُّهن في السّمسم. قلنا: هما من أجزاءِ السّمسم والزيتون، وهو لا يكون إلا جُزءاً من الأشياءِ وبعضاً منها. فإن قالوا: هو ظاهرٌ فيه، أحالوا، لأن الماءَ غيرُ النّار، والنار غير الماءِ، وكذلك جميع الأشياءِ، ولو كانت النّار ظاهرة في الماء لأطفأها الماءُ، ولو كانت ظاهرةً في العودِ أو القطن لأحرقته فبطل ذلك، ولم يبق إلا أنّ الأصول قد عدمت وبطلت، وإذا ثبت أنّها قد عدمت، فكيف يَتَهيَّأُ للمعدوم فِعْلٌ؟! وكذلك كان يجب أن تكون هذه الحوادث التي تحدث اليوم قديمةً؛ إذ ليس المُتقدِّم بأولى من المتأخِّر بالتقديم، فبطل ما قالوا، وصح أن الجمادات لا صنع لها، وقد احتج الله عليهم فقال عزَّ من قائلٍ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}[الواقعة:58،59]، ثم قال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}[الواقعة:63،64]، وقال عزّ من قائلٍ: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[الذاريات:49]. وقال القاسم بن إبراهيم عليهما السلام في الدَّليل الصغير: أمّا أوائل الأشياء فخُلِقَتْ لا من شيءٍ، وأمّا ما حدث بعد أوائل الأشياءِ فمنها ما حدث لا من شيءٍ، ومنها ما أُحْدِثَ من شيءٍ.(1/74)
وقال عليه السَّلام في موضعٍ آخر في قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}[الواقعة:58،59]، فالله هو الخالق ونحن المُمْنُونَ، ليس لنا في ذلك -غير إمناءِ المنيِّ- من صنع، ولا نقدرُ بَعدُ لِمَا قدّر بيننا من الموت على منعٍ، من تقدير صُنعنَا وتدبيره، وتبديل خلقنا -إنْ شاء خَالِقنا- وتغييره، إلا ما تولاّه ربُّنا، وكان منه لا منَّا، قال سبحانه: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}[الواقعة:63،64]، فالله هو الزّارع ونحن الحارثون، ليس لنا في الزّرع سوى حرثه من حِيلةٍ موجودةٍ، ولا نقدر بعد الحرث على الإنشاءِ منه لسنبلةٍ مذمومةٍ ولا محمودةٍ، فقدرتنا إنّما هي على الحرث والأعمال، وعلى خلافهما من الترك والإغفال، وكذلك فَلِلًّه من القدرة بعدُ على إبطال الزرع وإبلائه، مثل الذي كان له من القدرة على تثميره وإنمائِهِ، ولا يقدر على أمرٍ إلا من يقدر على خلافه، وعلى فعل ما كان من نوعه وأصنافه، فمن لم يكن كذلك ويصح صفته بذلك، كان بريًّا من القدرة عليه، وكان العجز في ذلك منسوباً إليه.(1/75)