والدليل على صحة ما ذكرناه قول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر:7]، وقوله عزّ من قائلٍ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ }[النساء:80]، والأمة مجمعةٌ على هذا.
والدليل على أن إجماع الأمة حُجَّةٌ قول الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِي‍رًا}[النساء:115]، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تجتمع أمَّتي على ضلالةٍ ))، فصح ما ذكرنا ووضح جميع ما قلنا؛ من وجوب النظر، وطريق الاستدلال.(1/66)


باب حقيقة معرفة الصنع
اعلم أن الصُّنع إسمٌ للفعل، وهو مصدرٌ من صَنَعَ يَصْنَعُ صُنْعاً؛ وأصلُهُ فَعَلَ يَفْعَلُ فَعْلاً، فصح أنّ اسمه يدلُّ على أنه فعلٌ، ولا يكون الفعل إلا من فاعلٍ، ولا يكون إلا محدثاً لتقدُّم فاعله عليه.
ولا خلاف في أنّ العالم يُسمّى صُنعاً. والعالَمُ اسمٌ للهواء، وما حوى من الأرض والسماء وما بينهما من جميع خلق الله العليِّ الأعلى. والعالمُ اسمهُ مُوَحَّدٌ، فإذا جمعتَ قلتَ: الْعَالَمِينَ؛ قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الفاتحة:2]، وهذا الفرق في الجمع والمُوحَّد في اللفظ، وأما في المعنى فلا فرق بين الْعَالَمِ والعالَمِين؛ لأن الاسمين يُنبيانِ عن معنًى واحدٍ، وسُمِّيَ العالمُ؛ لأنه عَلَمٌ وَدليلٌ على صانعه.(1/67)


فصل في الكلام في الهواء
من ذلك أنا نظرنا إلى الهواء وما فيه من السَّعة والرِّقة والصفاء، وكونه مكاناً للكثيف واللطيف من الأشياءِ؛ فإذا هو قد قُدِّرَ أحسن تقديرٍ، وجُعلَ حياةً للكبير من الحيوان والصغير، وجُعلَ صافياً نقيًّا من الآفات والأكدار، وجعل لونه أخضر يميل إلى السّواد لموافقة الأبصار. وقد قالت الأطبَّاءُ: من ضَعُفَ بصره فَلْيُدْمِنِ النّظر إلى زجاجة خضراءَ مملوءة ماءً، فكان كما وصفت الأطبَّاءُ، وجعله يحمل الأصوات والرّوائح (والغبار) ثم يُمْحَى ويزول فيعود نقيًّا، فتجري فيه الرياح بالسحاب والدُّخان والغبار ثم يزول منه فيعود نقيًّا، ولو كان يبقى كل ما يحمله من الدُّخان والغبار والرّوائح والأصوات؛ لكان ذلك مُؤدياً إلى الضّرر وإباحة الأسرار، والتَّأَذِّي بكثرة الأصوات والدُّخان والغبار. وما جعل في سعته ورقّته من الصلاح لصنوف المنافع وجَوَلاَنِ الأنفاس فيه والأرواح.
فلما وجدنا فيه أثر التدبير وجدناهُ قد وُضِعَ موضعه في صلاح الحيوان بأحسن تقديرٍ؛ علمنا أنه محدثٌ مبدوعٌ، ومخترع مصنوع، علماً ضروريًّا بالمشاهدة؛ إذ لا بُدّ لكل مدبَّرٍ من مدبِّرٍ، وكل مقدَّرٍ لا بُدّ له من مُقدِّرٍ، وإذا ثبت أنه مصنوعٌ ثبت أنه محدثٌ.
وقد قال أهل الدهر -وهم عباد الأهوية: الهواء هو ربُّهُم لأنه بزعمهم محيطٌ بالأشياء، فيه كل شيءٍ، وهو مع كل شيءٍ.
قالوا: وجدنا فيه الحياة، وعند انقطاعه الموت، فصح قِدَمُهُ قبل كل شيءٍ بزعمهم.(1/68)


والحجة عليهم أنه مع كبره ضعيفٌ، ومع اتِّساعه لطيفٌ، وصحّ من ضعفه أنه لا يُحدِثُ في الشاهد صغيراً ولا كبيراً، ولا يغني نقيراً ولا قطميراً، وأنه محدودٌ بسواه، منقطعٌ من غيره، متغير بغيره، وأنه يتغير بالأنوار، ويختلف باختلاف الليل والنّهار، وأنه يتغيّر بالروائح والدُّخان والغبار، وبالرّياح والسحاب والأمطار، ويقطع وينقطع، ويضيق ويتّسع، ويتحوَّل منه القليل فيتحوَّل، من ذلك هَواء البئر إذا دُفنت انتقل الهواء الذي كان فيها وزال، وما جاز على القليل جاز على الكثير، وما جرى على الصغير جرى على الكبير. وأيضاً: فإنه لا يخلو من الحالتين الحادثتينِ وهما: الحركةُ والسُّكونُ.
وقد أجمع المتكلِّمون المتقدِّمون والمتأخِّرون على أنّ الحركة والسكون حالتانِ حادثتانِ، إلا أصحاب الاضطراب وهم بعض أتباع بلعام فإنهم زعموا أن العالَمَ لم يزل متحرِّكاً بحركاتٍ لا نهاية لها، وقالوا: لو ثبت لها أوّلٌ، أو آخرٌ لثبت حدوثُ العالم.
والحجة عليهم أنّ كونه متحركاً بعد أن كان ساكناً يدلُّ على حدوث الحركة، وكونه ساكناً بعد أن كان متحركاً يدلُّ على حدوث السكون بالمشاهدة والعلم الضروري.
وقال بلعام: العالَمُ متحرِّكٌ، والحركةُ الأخرى هي الحركة الأولى معادةٌ. وهذا إقرارٌ منه بحدوث الحركةِ وأن لها مُحْدِثاً؛ لأن كل ما كان له أوّلٌ وآخرٌ محدثٌ، وإذا كانت معادةً فلا بدَّ لها من مُعِيدٍ. وقال: العالم قديمٌ وله مُدبِّرٌ، خلافُهُ من جميع المعاني.(1/69)


وقال أرسطاطاليس: العالَمُ هَيُولى قديمٌ. وتفسير الهَيُولى: هو أصل الأشياءِ، كما أن القطن أصلُ الثوب، والهيولى هو المدبِّرُ.
واختلف أهل الدّهر في ظنونهم. وقالوا: العالَمُ قديمٌ، ودليلهم على أزليّته أنهم لا يُعَايِنُوا شيئاً إلا من شيءٍ. وقالوا: الطّائرُ من البيضة، والبيضةُ من الطّائر، والنُّطفةُ من الإنسان، والإنسان من النُّطفةِ. وقالوا: لم يزل العالم بصورةٍ قديمةٍ، ومنهم من قال: لا ندري الإنسان كان قبل النطفة، أو النّطفة قبل الإنسان؟ ودليلهم: أنهم لم يروا إنساناً إلا من نطفةٍ، ولا نطفةً إلا من إنسانٍ.
وقالوا: العالم وما يتولّد منه طبعٌ قديمٌ، والصُّورةُ قديمةٌ، والخلقُ كامِنٌ فيها، وأنكروا أن يكون كامن غير صورةٍ فتحتاج إلى مصور، وقاسوا العالم بالدُّولاب.
وكل هذا من ظنونهم وخرصهم، وقد حكى الله قولهم، وذكر أنّ قولهم ظنٌّ، فقال عزّ من قائلٍ: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ}[الجاثية:24].
والحجة عليهم أن إقرارهم بالكُمُونِ، والصُّورةِ والدُّولابِ، يلزمهم ويبطل قولهم؛ لأن كُمُونَ الصّورةَ في الشيءِ يدلُّ على الانتقالِ، والانتقالُ حركةٌ، والحركةُ حادثةٌ، فوجب أن تكون الصورةُ المنتقلة حادثةٌ؛ لأنها لا تتعرّى عن الحركةِ والسكونِ، وكل ما لا يتعرَّى من الحوادث محدثٌ، وقد قدّمنا الكلام في ذلك. والدُّولاب أيضاً مصنوعٌ بالمشاهدة، فكذلك العالم.(1/70)

14 / 115
ع
En
A+
A-