فصل في الكلام في وجوب النظر والاستدلال
اعلم أن العقل يحكم بأن العلم حسنٌ وأن الجهل قبيحٌ، ويحكم أنه يجب على العاقل أن ينظر ويُميّز إذ قد أُعطيَ آلة النظر والتمييز، ويحكم أنه إن لم ينظر ويُميز لم يبلُغ إلى استجلاب منفعةٍ، ولا دفع مضرّةٍ، ولا يبلغ إلى إصلاح دينٍ ولا دنيا.
واعلم أن العقل هو أصلح الحجج؛ والكتابُ والسُّنَّةُ تأكيدٌ له، والدليل على ذلك، أن الكتاب والسنة ما عُرفَا إلا بالعقل.
ومما يدل على وجوب النظر أن العلم بحقائق الأشياء لا يتأتّى إلا من وجهين: وهما: التقليد والنظر. والتقليد لا يُعمل به في الأصول؛ لأن المُحقّ ليس بأولى من المبطل في أن يُقلَّد.
ويؤيد ذلك ما روي عن حذيفة بن اليمان أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تكونوا إمَّعَةً تقولون: إن أحسَنَ الناسُ أحسنّا، وإن أساءوا أسَأنا، ولكن وطِّنوا أنفُسَكُمْ، إن أحسَنَ الناسُ أن تُحْسِنُوا، وإن أَسَاؤُا فلا تَظْلِموا)) فبانَ فسادُ التقليد، ولم يبق إلا النظر المؤدِّي إلى الصواب.(1/56)


ويدلّ أيضاً على وجوب النظر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ستفترق أمّتي على ثلاثٍ وسبعين فرقةً كلُّها هالكةٌ إلا فرقةً واحدةً)). وما رُوي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا قول إلا بعمل ، ولا قول ولا عمل إلا بنيّة، ولا قول ولا عمل ولا نِيّة إلا بإصابة السُّنّة))، فوجب على كل عاقلٍ أن ينظر ويختار (لنفسه) مذهباً يشهد له به العقل والكتاب والرُّسُلُ والإجماعُ، وأن يجتهد في إصابة السنة، بالنظر والاستدلال والبيّنات.(1/57)


وقد ندب الله تعالى إلى قبول الحق بالبراهين والحجج، وذم المعرضين والغافلين عن معرفة الآيات والبيّنات؛ فقال عزّ من قائل: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أو نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:111]، وقال تعالى في ذمَّ من اتبع الظن والهوى، ومالَ إلى الغفلة وترك النظر: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ، حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَم ماذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[النمل:83-84]، وقال عزّ من قائل: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ}[الجاثية:24]، وقال عزّ من قائل: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}[النجم:28]، وقال تعالى وعزّ من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ، أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ...}الآية[يونس:7،8]، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((تعلموا القرآن وعلّموه الناس ، وتعلموا الفرائض وعلموها الناس، فإني امرؤٌ مقبوض، وإن العلم سيُقبض من بعدي، ويختلف الرجلان فلا يجدان من يفصل بينهما))، وروي عن جابر بن(1/58)


عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((قوام المرء عقله ، ولا دين لمن لا عقل له))، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إنما يدرك الخير كله بالعقل ، ولا دين لمن لا عقل له))، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ما تمّ دين إنسان قط حتى يتم عقله ))، وروي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((جد الملائكة واجتهدوا في طاعة الله على قدر عقولهم، فأعملهم بطاعة الله أوفرهم عقلاً))، وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما اكتسب أحدٌ مكتسباً مثل فضل العقل يهدي صاحبه إلى هدىً أو يرده عن ردًى، وما تم إيمان عبد ولا استقام دينه حتى يكمل عقله))، وروي عن الزهري عن سالم عن أبيه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لكل شيء معدن ومعدن التقوى قلوب العارفين))، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((الناس يعملون الخير ويعطون أجورهم على قدر عقولهم ))، وروي عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الرجل يكون من أهل الصلاة ومن أهل الصوم والزكاة والحج وما يجازى يوم القيامة إلا بقدر عقله))، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((في جسد ابن آدم نطفة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب))، فصح ما قلنا.(1/59)


ولا يبلغ العاقل درجة العقل إلا بنظر واستدلال. وهذا لا خلاف فيه. إلا ما روي عن داود الأصبهاني من قوله: بأن العقل ليس بدليل ومن طابقه من الحشوية أهل الظاهر بعدم دلالة العقول. فأنكر ذلك عليهم جميع العلماء. وقال في ذلك ابن دريدٍ يهجوهم:
قال داود ذو الرقاعة والجهل

بأن العقول ليست بحجة

ولعمري لعقله ذلك العقل

فما أن به يصاب محجّة

ثم أصحابه يعومون عوماً

من ضلالات جهلهم وسط لجة

وقد تقدم الاحتجاج عليهم من العقل والكتاب والرسول والإجماع.
واعلم أن في الكتاب محكماً ومتشابهاً، وناسخاً ومنسوخاً. ولا يُعلم المحكم من المتشابه ولا الناسخ من المنسوخ إلا بنظرٍ واستدلالٍ عقليٍّ؛ وكذلك السُّنة وأخْذُها من الرُّواة.
واعلم أن الأخبار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ثلاثة وجوهٍ:
فمنها: الخبر المشهور المستفيض الذي أجمعت عليه الأمة، وهو مثل: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا إلى الله، وأنَّ القرآن أُنزل عليه، وأنه جاهد الكفّار ومن عَنَدَ عن الحق. ومثل ما فعله وأمر به من الطهارة، والصلوات الخمس، والزكاة، والصوم، والحج، وأشباه ذلك؛ وهذا يُعلم ضرورةً؛ لأن الأمة على كثرتها واتِّساع مساكنها، واختلاف ألسنتها وأحوالها لا تتَّفق على كذبٍ، ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تجتمع أُمَّتي على ضلالة )).(1/60)

12 / 115
ع
En
A+
A-