وَكَثِي‍رٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}[الحديد:26]، وهذا في القرآن كثيرٌ.
ثم ذكر الله المؤمنين المخلصين بالقلّة، فقال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ}[سبأ:13]، {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ }[هود:40]، وقال: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ }[البقرة:249]، وقال: {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ }[الأعراف:3].
وذكر ما كان من أصحاب موسى عند باب حطّة، وقولهم لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }[المائدة:24]، وذكر قول موسى عليه السَّلام: {رَبِّ إِنّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي }[المائدة:25]، وذكر من قوم موسى رجلين وهم ألوفٌ فقال تعالى: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ}[المائدة:23]، وقد قيل: إنهما يوشع بن نون، وكالب بن نفثا القناري من أرض قنار. وقيل: إنه المؤمن الذي كان يكتم إيمانه. فصح أن القليل ممدوحٌ، وأن الكثير من الفرق مذمومٌ.
وبسبب قلة الفرقة الناجية تظاهر أعداء الله عليهم. وقد ذكرنا ما فعل بنو أميّة وبنو العباس بأولاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ وذلك أن معاوية لعنه الله لما غلب على الأمر جعل سبّ أمير المؤمنين عليه السَّلام سيرةً وسجيّةً، حتى كتب إلى والٍ له من جهته يقول له: أُقتل من كان على دين علي، واضرب عنق حِجر بن عديٍّ؛ لأنه لم يتبرّأ من علي عليه السَّلام وأنكر سبّه.(1/566)


وكانوا يلعنون عليًّا على المنابر، ويدعونه أبا ترابٍ، حتى وَلِيَ عمر بن عبد العزيز فمنع ذلك، فقال في ذلك كثير عزّة:
طبت بيتاً وطاب أهلك أهلاً

أهل بيت النبيء والإسلام

لعن الله من يسبّ عليًّا

وبنيه من سوقةٍ وإمامِ

تأمن الطير والوحوش ولا يأ

مَن أهل البيت عند المقام

وسُمّ الحسن على يدي جعدة بنت الأشعث بن قيس، حتى رُوي أنه قال: سُقيت السم مراراً وما سُقيتُ مثل هذه المرّة، ولقد مشت طائفة من كَبِدِي.
وفُعل بالحسين بن علي عليهما السلام ما فُعل، وخبرهُ مشهورٌ.
ورُوي أنه لما قُتل كتب عبيد الله بن زياد أن تُوطأ الخيل على ظهره، وحزّ رأسه وأمر به إلى يزيد بن معاوية ـ لعنهما الله سبحانه ـ وسيق حريمه وأهله على الأقتاب إلى دمشق.
وقُتل زيد بن علي" وصُلب، ثم قُتل ولده يحيى بن زيد" وهُرِسَ في المهراس.(1/567)


وقُتل محمد وإبراهيم ويحيى أولاد عبد الله بن الحسن" وغيرهم من أهل بيت النبيء صلى الله عليه وآله وسلم. ولهم أسوةٌ حسنةٌ بمن سبقهم من الأنبياء" والصالحين، وقد قال الله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رسول بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}[البقرة:87]، وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِي‍رٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا}[آل عمران:146]، وقال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[البروج:4-8]، وكذلك أهل البيت". ولذلك قلّت هذه الفرقة الناجية، ولم يشتهر علمهم لأجل ذلك، كما اشتهر علمُ الفقهاء كأبي حنيفة والشافعي من العامة، ومالك، ومحمد بن الحسن، وأبي يوسف في أكثر الأمصار. وقد رُوي عن أصحاب أبي حنيفة أنهم كانوا إذا تكلّموا في المسائل فأرادوا أن يحكوا قولَ علي عليه السَّلام قالوا: قال الشيخ، ولم يُفصحوا باسمه خوفاً من السلطان، فكيف يظهر علمهم والأمر كذلك مع طول المدّة؟ فإن دولة بني أمية انقضت في سنة اثنتين وثلاثين ومائة هجرية، فصار الأمر إلى بني العباس فساروا طريقة بني أمية في قتل أهل البيت" فإنهم قتلوهم بضروبٍ من القتل، فما زالت تلك حالتهم حتى ضعفت دولتهم بظهور الجيل(1/568)


والديلم.
وأيضاً فإن فقهاء العامة الذين سمّينا كانوا يرون ولاية آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرضاً، ويشهدون لهم بالتفضيل، ويقولون: إن مودّتهم هي أجر الرسالة. وقد رُوي أن سبب موت أبي حنيفة: أن أبا جعفر -الثاني من خلفاء بني العباس- كتب إليه كتاباً، وإلى الأعمش كتاباً على لسان إبراهيم بن عبد الله، فلما رأى أبو حنيفة الكتاب الذي كتبه إليه أخذه وقبّله وقرأه، ولما رأى الأعمش الكتاب الذي كتب إليه رمى به. وكذلك الشافعي كان يظهر محبّة أهل البيت" وهو القائل فيهم:
يا راكباً قف بالمحصب من منى

واهتف بقاطن أهله والناهض

سحراً إذا جاش الحجيج إلى منى

سيلاً كملتطم الفرات الفائض

قف ثم ناد بأنني لمحمدٍ

ووصيه وبنيه لست بباغض

إن كان رفضاً حب آل محمدٍ

فليشهد الثقلان أني رافضي

وروي أن محمد بن الحسن غضب عليه هارون في ميله إلى أهل البيت فرماه بالدّواة فشجّ رأسه. فصح لنا الإجماع، وصحّ أن الزيدية هم الفرقة الناجية.
وقد شذ من الزيدية فرقتان في عصرنا هذا:(1/569)


إحداهما: المُطرفيّة الذين قالوا: ليس يُسمع القرآن، ولا يُسمع الكلامُ، وأنه صفةٌ ضروريّةٌ لقلب الملَك لا تفارقه. فأنكروا نزول القرآن، وقالوا: إن الله سبحانه لا يقصد كثيراً مما يحدث من الخلق والرزق والموت والحياة، بل ذلك يحصل بإحالات الأجسام، فأنكروا تدبير الله سبحانه لخلقه حالاً بعد حالٍ. وقالوا: إن فعل العبد لا يعدوه، ولا يوجد من الظالم فعل في المظلوم، فنسبوا أكثر الظلم إلى الله سبحانه، وما أشبه ذلك من الجهالات القبيحة، وهذا القول مخالفٌ للكتاب والسنة والإجماع، فخرجوا من الفرقة الناجية بخروجهم عن الكتاب والسنة والعقل والإجماع.
والفرقة الأخرى: الذين قالوا: إن الحسين بن القاسم أفضل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكلامُهُ أبهر من كلام الله، وهؤلاء خرجوا من الفرقة الناجية بخروجهم عن العقل والكتاب والسنة والإجماع.
ومن أهل مقالتنا في عصرنا: قومٌ توانوا وسهّلوا في العمل، وغفلوا عن طلب العلم، وركنوا على إصابة الطريق، فضيّعوا الدين، وتخلّفوا عن طريق المؤمنين، فمثلهم كمثل النائم على الطريق؛ ومثل مخالفهم كمن يمشي مجتهداً في غير الطريق، فكلا الفريقين لا يبلُغُ المراد، إلا أن يستيقظ النائم، ويرجع الضال عن الطريق إلى الطريق.
نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى من طاعته حتى يصدُق قولنا بعملنا، ونسأله أن يتجاوز عن خطايانا وزللنا، وأن يبلِّغنا صالح آمالنا ويختم لنا بخير أعمالنا.

تم الكتاب والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله خير آل(1/570)

114 / 115
ع
En
A+
A-