لا يُخالف تأويله تنزيله.
ومن الدليل على أن الزيدية هم الفرقة الناجية: أنهم أخذوا بالأحسن من كتاب الله -وهو المحكم- كما أمرهم الله، وتركوا المتشابه، وتمسكوا بعترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما أمرهم الله ورسوله، وأخذوا بالإجماع وتركوا المختلف فيه، فثبت أنهم على الحقِّ ومن خالفهم على الباطل.
واعلم أنك لا تعرف الفرقة الناجية حتى تعرف الفرق الهالكة، ولن تعرف المحكم من الكتاب حتى تعرف المتشابه، والناسخ والمنسوخ، ولن تعرف الإجماع حتى تعرف الاختلاف؛ ولهذا عددنا معرفة الاختلاف أصلاً من الأصول التي سمينا في كتابنا هذا، ومما يؤيد ما قلنا: ما روي عن زيد بن علي عليهما السلام أنه قال في خطبة له: (أما بعد يا قارئ القرآن فإنك لن تتلو القرآن حق تلاوته حتى تعرف الذي يقصّه، ولن تعرف الهدى حتى تعرف الضلالة، ولن تعرف التّقِي حتى تعرف الذي تعدّى. فإذا عرفت البدعة في الدين والتكليف، وعرفت الفرية على الله والتحريف، عرفت كيف هذا من هذا).
واعلم أن الأمة افترقت في بدء الأمر عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرقتين:فرقةٌ بايعت أبا بكر طائعين، ورأوا إمامته وإمامة عمر وعثمان. وفرقةٌ توقّفوا مع علي أمير المؤمنين عليه السَّلام.
فلما قام علي وبايعه الناس افترقت الأمة على أربع فرق:(1/556)
ففرقة نصحوا لله وله، وأطاعوه، وقالوا بقوله، وبايعوه، وهم الشيعة. وإنما سُمُّوا الشيعة لأنهم والوه ونصروه. والشيعة هم الأولياء، قال الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لاَِبْرَاهِيمَ ، إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الصافات:83،84]، وقال تعالى في قصة موسى عليه السَّلام: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ}[القصص:15]، فصحّ أن الشيعة هم الأولياء.
وفرقة -وهم المرجئة- وهم الذين قدّموا أبا بكر وعمر على عليّ عليه السَّلام وأرجئوا عليا وعثمان ومعاوية. وهم الذين قال فيهم السيد الحميري:
رفيقي لا ترجيا واعلما
بأن الهدى غير ما تُرجيان
فإرجاء ذي الشك بعد اليقين
ضعف البصيرة بعد البيانِ
ضلال أزالتهما عنكما
فبئست لعمركما الخصلتانِ
أيُرجا علي إمام الهدى
وعثمان، ما اعتدل المرجئانِ
ويرجا ابن هند وأحزابه
يقود اليمامة بالنّهروانِ
وافترقت المرجئة فرقتين: فرقةٌ يقال لهم أصحاب الحديث، وفرقة يُقال لهم أصحاب الرّأي.
وأصحاب الحديث هم أصحاب الظاهر، وهم الذين يقولون: نتّبع ما رُويَ لنا، ولا نقيس ولا نجتهد، ويقولون: القرآن مخلوقٌ، ويُسمون أيضاً الحشويّة لحشوهم الأخبار المتناقضة والقول المتناقض، وقد قال فيهم بعض من أنكر عليهم: يروي الأحاديث، ويروي نقضها.
ومنهم المشبهة، وسموا بذلك لقولهم بالتشبيه.(1/557)
ومنهم الشّكاك، وسُمُّوا بذلك لأنهم لم يثبتوا الشهادة على من يشهد الشهادتين أن يكون مؤمناً حتى يقولوا للمؤمن: نرجو أن يكون مؤمناً.
وفرقة من المرجئة -وهم أصحاب الرأي- وسُمُّوا بذلك لأنهم يرون القياس والرأي والاجتهاد في الفقه.
ومنهم الجهمية، نُسبوا إلى جهم بن صفوان، ويُقال لهم مرجئة خراسان. ورُوي أن جهماً كان يكفِّر أهل التشبيه، ويُظهر القول بخلق القرآن، وكان يقول بالجبر وقد ذكرنا قوله فيما تقدم.
ومنهم الغيلانيّة، نُسبوا إلى غيلان بن مروان، ويقال لهم مرجئة أهل الشام، وكان يخالف جهماً وأبا حنيفة في أشياء، منها أنه كان يقول: الإمامة تصلح في غير قريشٍ. ويقول بخلق القرآن.
ومنهم الماضريّة، نُسبوا إلى قيس بن عمرو الماضري، ويُقال لهم مرجئة أهل العراق، وكان يقول: الإمامة في قريشٍ. ويقول بخلق القرآن.
ومنهم الشِّمريّة، نُسبوا إلى أبي شمرٍ، وكان يقول: الإمامة في كل الناس. فهذه فرق المرجئة.
وفرقةٌ وهم الخوارج، وهم الذين خرجوا على علي عليه السَّلام، وحاربوه. ومنهم الأباضيّة، نُسبوا إلى عبد الله بن أباضٍ.
ومنهم الأزارقة، نُسبوا إلى نافع بن الأزرق، وكان رئيس الخوارج بالبصرة والأهواز.(1/558)
ومنهم النّجدات، نُسبوا إلى نجدة بن عامر الحنفي، وهم المارقون، وسُموا بذلك لأنهم مرقوا من الإسلام، وقد روي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يكون فيكم قومٌ تحتقرون صلاتكم مع صلاتهم ، وأعمالكم مع أعمالهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرُقون من الدِّين كما يمرق السهم من الرمية تنظر في النصل فلا ترى شيئاً))، وكان سبب خروج هذه الفرقة من الدين أنه لما كان من أمر الحكمين في صِفين ما كان، اجتمع قومٌ من أصحاب أمير المؤمنين عليه السَّلام منهم عبد الله بن الكوى، وعروة بن جرير، ويزيد بن عاصم المخارقي، وجماعة معهم، فاعتزلوا، وبايعوا عبد الله بن وهب الراسبي وتبرّءوا من الحكمين، وكفّروا عليًّا عليه السَّلام. فهذه الفرق المتقدمة.
ثم تفرقت كل فرقةٍ منهم فرقاً كثيرةً، وقد ذكرنا فرق الشيعة فيما تقدم بما فيه كفايةٌ.
فأما المعتزلة فكان سبب اعتزالهم أن شيخ المعتزلة واصل بن عطاء كان يرى رأي أهل البيت"، وكان يُظهر القول بالعدل والتوحيد ومحبّة أهل البيت" في البصرة في وقت غلبة الخوارج، وكان تربّى مع أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية رحمه الله، وكان محمد بن الحنفية يراه مثل الولد، وكان يأخذ العلم عن أبي هاشم، ويأخذه أبو هاشم عن أبيه محمد بن علي عليه السَّلام ويأخذه محمد عن أبيه علي عليه السَّلام. وكان اختلف هو والحسن البصري في [مسألة] المنزلة بين المنزلتين. فقال الحسن بن أبي الحسن البصري: الفاسق منافقٌ. وقال واصل: الفاسق ليس بمؤمن ولا كافرٍ بل له منزلة بين المنزلتين.(1/559)
وكان عمرو بن عبيد يقول بقول الحسن، ثم رجع إلى قول واصل بن عطاء، وبرجوعه واعتزاله عن قول الحسن سُمّيت المعتزلة معتزلةً، مع ما تقدّم من اعتزال واصل بن عطاء للخوارج، وإظهاره للتشيع، فبسبب ذلك سُميت المعتزلة معتزلةً.
ثم افترقت المعتزلة فرقتين: فرقةٌ لزمت بقول واصل بن عطاء في تفضيل أمير المؤمنين عليه السَّلام وتقديمه على أبي بكر وعمر وعثمان، والقول بإمامة الحسن والحسين، وزيد بن علي، ومحمد وإبراهيم ابني عبد الله"، وهم مشائخ البغداديين، مثل جعفر بن حرب، وجعفر بن مُبشّر، وأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، والمرشد، ومن قال بقولهم وهؤلاء يُسمون شيعة المعتزلة، ومعتزلة الشيعة. وسموا الزيدية معتزلة الشيعة، وصوّبوا الزيدية في جميع أقوالهم، وذكروا أن الفرقة الناجية هم شيعة المعتزلة ومعتزلة الشيعة، يعنون الزيدية.
وفرقة وهم المعتزلة البصريين فإنهم خالفوا في الإمامة وفي الإرادة، ووافقونا في العدل والتوحيد، وصدق الوعد والوعيد، والنبوءة، وغير ذلك من الأصول. فأما الإمامة فإنهم خالفونا فيها خلافاً كثيراً، وذلك أنهم يقولون: الإمام أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي عليه السَّلام، ثم الإمامة جائزةٌ في كل الناس، وهذا قول فريق منهم.
ومنهم من قال: الإمامة في قريشٍ، وقالوا: إذا اجتمع قرشيٌّ ونِبطيٌّ وُلِّيَ القرشي على النبطي.
وقال ضرارٌ: إذا اجتمع قرشي ونبطي وُلِّيَ النبطي لأنه أقل عشيرةٍ وأهون شوكةٍ، وعلته أنه إذا عصى الله كان أسهل لخلعه.(1/560)