رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((تجاهدونهم على الإحداث في الدين)). فقال علي: يا رسول الله إنك تقول تجاهدونهم كأني سأبقى بعدك إلى مجيء الفتنة، فأعوذ بالله والرسول أن أؤخر بعدك، فادع إلى ربك أن يتوفاني قبل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما كنتَ حقيقاً أن تأمرني أن أدعو الله لك أن يُقدم أجلك قبل ما أجّل الله وقضى والله يقول سبحانه: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً }[آل عمران:145]، فقال علي: يا رسول الله، فما هذا الأحداث التي نجاهدهم عليها؟ قال: ((ما خالف القرآن وخالف سُنّتي؛ إذا عملوا في الدِّين بغير الدِّين. وإنما الدين أمر الربّ ونهيه)). فقال علي: يا رسول الله، فإنك قلتَ لي يوم أحدٍ ـ إذ استشهد من المؤمنين من استشهد. فأخرت عني الشهادةُ، فرأيت وُجدي وأسفي ـ إن الشهادة من ورائك. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((فإن ذلك إن شاء الله كذلك، وكيف ترى صبرك إذا خُضبت هذه من هذا؟)) -وأهوى بيده إلى لحيته ورأسه-. فقال علي: ليس ذلك حينئذٍ يا رسول الله من مواطن الصبر، ولكنه من مواطن البُشر والشّكر. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((فأعدد قبل خصومتك، فإنك مُخاصَمٌ)). فقال علي: يا رسول الله فأرشدني إلى الفلج عند الخصومة. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إئثر الهُدى، واعطفه على الهوى من بعدي، إذا عطف قومك الهوى على الهدى وآثروه، واعطف القرآن على الرأي إذا عطف قومك الرأي على القرآن وحرّفوا الكَلِمَ عن مواضعه بالأهواء العارضة(1/551)
والآمال الطامحة، والأفئدة الناكثة، والغش المطويِّ، والإفك المردي، والغفلة عن ذكر الموت والمعاد، فلا يكوننّ خصومك أولى بالقرآن منك، فإن من الفلح في الدنيا أن يخالف خصمك سُنة رسول الله، وأن يخالف القرآن بعمله يقول الحق ويعمل الباطل، وعند ذلك يُملَى لهم ليزدادوا إثماً، ويضلوا ضلالاً كبيراً؛ وعند ذلك لا يدين الناس بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يكون فيهم شُهداء لله بالحق، وعند ذلك يتفاخرون بأموالهم وأنسابهم، ويزكون أنفسهم، ويتمنّون رحمة ربهم، ويستحلّون الحرام والمعاصي بالشبهات والأسماء الكاذبة، فيستحلون الربا بالبيع، والخمر بالنبيذ، والنجس بالزكاة، والسحت بالهديّة، ويُظهرون الباطل، ويتعاونون على أمرهم، ويتولون الجهلاء، ويفتنون العلماء من أولي الألباب، ويتخذونهم سُخريا)). فقال علي: يا رسول الله أفبمنزلة رِدَّةٍ إذا فعلوا ذلك، أم بمنزلة فتنةٍ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((بل بمنزلة فتنةٍ، لو كانوا بمنزلة ردةٍ أتاهم رسول من بعدي يدعوهم إلى الرجعة من بعد الرِّدّة، ولكنها فتنةٌ يستنقذهم الله منها ـ إذا تأخرت آجال السعداء ـ بأولياء من أولياء الله، فيهديهم بهم، ويهدي بهم، حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين كله لله)). فقال علي: من آل محمد الهداة أم من غيرهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((بل بنا يختم الله كما فتح بنا، وبنا يستنقذون من الفتنة، كما بنا أُنقذوا من الشرك بعد عداوة الشرك فصاروا إخواناً في دينهم)).(1/552)
وروي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام أنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((أتاني جبريل صلى الله عليه وسلم فقال : إن أمتك مختلفةٌ من بعدك، فقلت: فأين المخرج يا جبريل؟ فقال: ((كتاب الله به يُقصم كل جبارٍ عنيدٍ، من اعتصم به نجا، ومن تركه هوى، قولٌ فصل، وليس هو بالهزل، لا تخلقه الألسن، ولا يثقل على طول الرد، ولا تفنى عجائبه، فيه أثر من [كان] قبلكم، وخبر من هو كائنٌ بعدكم)). وروي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام أنه قال: (حفظت ونسيتم)، ثم قال: (ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيئكم، والذي بعثه بالحق [نبيئا] لَتُبَلْبَلُنّ بلبلةً، ولَتُغربلُنّ غربلةً، ولتُساطُنّ سوط القِدْرِ حتى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم، وليَسْبَقَنّ سباقون كانوا قَصُرَوا، وليقصرنّ سباقون كانوا سبقوا، والله ما كتمت وسْمةً، ولا كذبت كذبةً، ولقد نبّئت بهذا المقام في هذا اليوم).
وروي عنه عليه السَّلام أنه سأله ابن الكوى عن السنة والبدعة، وعن الجماعة والفرقة. فقال: يابن الكوى؛ حفظت المسألة فافهم الجواب: (السنة والله سنة محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، والبدعة ما خالفها، والجماعةُ والله أهل الحق وإن قلّوا، والفرقة والله متابعة أهل الباطل وإن كثروا).(1/553)
فصل في الكلام في الفرقة الناجية
فإنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في خطبة الوداع: ((أيها الناس إني امرؤٌ مقبوضٌ ، وقد نُعيتْ إليَّ نفسي، ألا وإنه سيُكذب عليَّ كما كذب على الأنبياء من قبل ي، فما أتاكم عنّي فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فهو مني وأنا قلته، وما خالفه فليس مني ولم أقله))، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أمة أخي موسى افترقت على إحدى وسبعين فرقةً، وافترقت أمة أخي عيسى على اثنتين وسبعين فرقةً، وستفترق أمتي من بعدي على ثلاثٍ وسبعين فرقةً كلها هالكةٌ إلا فرقةً واحدةً)). فلما سُمِعَ ذلك منه ضاق به المسلمون ذرعاً وضجوا بالبكاء وأقبلوا عليه قالوا: يا رسول الله كيف لنا بعدك بطريق النجاة، وكيف لنا بمعرفة [الفرقة] الناجية حتى نعتمد عليها؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب الله وعِتْرَتِي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)).
والأمة مجمعة على صحة هذا الخبر، وكُلّ فرقة من فرق الإسلام تتلقّاه بالقبول، وتزعم أنها هي الناجية.
والأمة أيضاً مجمعةٌ على أن إجماع الأمة حجّة لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لن تجتمع أمّتي على ضلالة )).
والأمة أيضاً مجمعةٌ على أن الأخذ بالمُحكم من كتاب الله أولى من الأخذ بالمتشابه. وهي أيضاً مجمعةٌ أن في الكتاب مُحكماً ومتشابهاً، وناسخاً ومنسوخاً، فلما كان ذلك كذلك ثبت أن من اجتمعت فيهم هذه الأشياء من الفرق فهم الفرقة الناجية.(1/554)
وصح أن الزيدية قد اجتمعت فيهم هذه الأشياء، وذلك أنهم تمسّكوا بالكتاب، وبالعترة، وهم الذين وقع عليهم الإجماع أنهم آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي التمسك بالكتاب ما يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}[الأعراف:170]. والزيدية هم الذين اتبعوا المحكم وتركوا المتشابه، وعملوا بالناسخ وتركوا المنسوخ، وقد بين الله تعالى ذلك فقال عزّ من قائلٍ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[آل عمران:7]، فبين أنه لا يؤخذ إلا بالمحكم وذمّ الذين أخذوا بالمتشابه، وقال تعالى: {اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ }[الزمر:55]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[الزمر:18]، فدلّ هذا على أن القرآن كله حسنٌ، وعلى أن بعضه أحسن من بعض، وعلى أن الله أمر باتباع الأحسن، والأحسن هو المحكم، والمجمع على أنه أحسن من المتشابه. والمحكم: هو الذي(1/555)