وأما قولهم: إنه لا يجتهد إلا إمام منصوص عليه. فقد جاء عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم ما يسقط قولهم، وذلك أنه لما أمر معاذاً إلى اليمن قال: بِمَ تحكم ؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي لا آلو اجتهاداً، فقال: ((الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما وفّق له رسول الله)) ولو كان القول كما قالوا، لكان أكبر حُجج الله قد سقط وهو العقل، ولو سقطت حُجّة العقل لما انتُفِعَ بالكتاب والسنة، فسقط ما قالوا وثبت قولنا، فالحمد لله الذي أبلج حُجّتنا، وثبّت أقدامنا على الصراط المستقيم.(1/546)


باب حقيقة معرفة الاختلاف
وقد ذكرنا جميع مسائل الاختلاف في الأصول، وذكرنا جميع من خالف فيها، وأوردنا على جميع المخالفين من الحجج والبراهين ما فيه كفايةٌ، وذكرنا ذلك في مواضعه، ليسهل تناوله، ويقرب أخذه، فلا معنى لإعادة ذلك. وإنما غرضنا في هذا الباب [حينئذ] إيضاح سبب الاختلاف وتبيين الفرقة الناجية، فأول ما نذكر من ذلك سبب الاختلاف.
واعلم أن سبب الاختلاف بين الأمة البليّة، وذلك أن طرق العلم ثلاثٌ وهي: العقلُ، والكتابُ، والرسولُ. وقد جعل الله عقول المتعبَّدين مختلفةً للبلية، فمن هنالك وقع الاختلاف في المسائل المعقولة على قدر اختلاف العقول. وقد جعل الله تعالى الكتاب مُحكماً ومُتشابهاً، وناسخاً ومنسوخاً، وعامًّا وخاصًّا؛ فمن أجل ذلك وقع الاختلاف في المسائل التي طريقها الكتاب. ولما كان في المسلمين الصادق والمنافق؛ وكان السكوت من الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم عن المنافق وتغطيته بليّةً، فمن قِبَلِ المنافقين وقع الدّخلُ في الأخبار، ووقع فيها أيضاً الفساد من طُرقٍ أخرى، وهي أن ممن يروي الأخبار النّاسي والذاكر، والغائب والحاضر. وفي الأخبار أيضاً المُتشابه والمنسوخ، ومنها أيضاً ما دُلِّسَ على الرواة، ومنها ما روي مُرسلاً ولم يشتهر اشتهاراً كثيراً، ولا تواترت به الأخبار.
فمن المتشابه: ما روي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: ((لا ينتطح فيها عنزان )). ومن ذلك ما رُوي عنه من قوله: ((من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع رِبْقَةَ الإسلام من عنقه)). ومن ذلك ما رُوي عنه من قوله في الإبل: إنها خُلقت من الشياطين.(1/547)


ومثل ما رُوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله لسودة بنت زمعة في الشاة الميتة: ((هلاّ انتفعتم بإهابها )) وهذا الخبر عندنا متشابهٌ، والمراد به هلاّ ذكيتموها فانتفعتم بإهابها؛ لأنه يمكن أن تكون عجفةً لا ينتفع بلحمها. وقال غيرنا: الخبرُ منسوخٌ، نسخه ما رُوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كتب قبل موته بشهرٍ قال: ((لا تنتفعوا من الميتة بشيءٍ )).
والمنسوخ مثل ما روي من المسح على الخُفّين، نسخه آية الغَسْل في [سورة] المائدة.
وأما المراسيل في الأخبار فكثيرٌ، وما دُلِّس على الرّواة أكثر، وقد رُوي عن بعض الملحدين أن السلطان أمر بقتله، فقال: افعلوا ما شئتم فقد حلّلت لكم الحرامَ وحرّمت عليكم الحلال، ودسستُ في مذهبكم أربعة آلاف حديثٍ. وروى عن عمر أنه كان ينكر على أبي هريرة كثرة الرواية عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم، وقال له: لَتُقِلّن الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لأنفيك إلى جبال دوسٍ.(1/548)


فهذه الأمور التي ذكرناها هي سبب الاختلاف. وقد جعل الله سبب الاختلاف بليّة لعباده؛ لأن يرجعوا إلى أولي الأمر منهم وهم أهل بيت نبيئهم صلى الله عليه وآله وسلم وقد قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ }[الشورى:10] أراد بقوله: {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} أن يردُّوا ما اختلفوا فيه إلى من أمرهم الله بردِّه إليهم حيث يقول تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء:83]، وقد ذكر الله تعالى الاختلاف فقال عزّ من قائلٍ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[البقرة:213]، وقال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}[هود:118،119]، يريد: أنه خلقهم للرحمة، ولئلاّ يخالف أهل الحق أهل الباطل. وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام قال: سألت النبيء صلى الله عليه وآله وسلم لِمَ أنزلت: {ال‍م ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ(1/549)


لاَ يُفْتَنُونَ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:1-3]؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا علي ويا فاطمة، إن الله قد جعل الفتنة على الذين يقولون: آمنا . ليعلم الذين صدقوا في قولهم، ويعلم الكاذبين في إيمانهم، فهذا وعدٌ واقعٌ واجبٌ، ثم أنزلت {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[العنكبوت:4]، (ثم) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا علي ويا فاطمة؛ قد علم الرب أنّ أقواماً من بعدي عند الفتنة سيعملون السيئات ، ويحسبون أنهم سابقون)). فقال علي عليه السَّلام: فكيف يحسبون أنهم سابقون يا رسول الله ومن ورائهم الموت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا علي إنهم لم يسبقوا قضاء الله الذي قضى فيهم الموت)). ثم أُنزل {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ }[العنكبوت:5]، لأنه يعني أن من رجا لقاء الله أن يستعد لأجل الله، فإن يكن تائباً تابعاً لطاعته، مُجتنباً لخلاف الله ومعصيته، يعلم أن الله يعلم ما يعمل، ويسمع ما يقول؛ ولذلك قال سبحانه: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }[العنكبوت:5]، ثم أنزل سبحانه: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[العنكبوت:6]، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد قضى الله على المؤمنين عند الفتنة بعدي الجهاد، فقال علي: يا رسول الله على ما نجاهد الذين يقولون آمنا؟ فقال(1/550)

110 / 115
ع
En
A+
A-