فصل في الكلام في فرق الشيعة
اختلفت الشيعة على ثلاث فرق، ففرقة هم الزيدية، وقد ذكرناهم بما فيه كفاية.
وفرقة هم الكيسانية فإنهم قالوا: إن الإمام بعد الحسين بن علي أخوه محمد بن الحنفيّة".
ثم اختلفوا فيما بينهم، فقال السيد الحميري ومن قال بقوله: هو بجبال رِضوى أسدٌ عن يمينه ونمرٌ عن شماله، يأتيه رزقه بكرةً وعشيةً، ثم يظهر فيملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جَوراً.
وقال حيان السراج ومن قال بقوله: هو بجبال رِضْوَى ميِّتٌ، وأن الله يبعثه فيملأها عدلاً كما مُلئت جَوراً.
وقال الصنف الثالث ـ أبو مسلم وأصحابه: إنه مات وقد أوصى إلى ابنه أبي هاشم عبد الله بن محمد ـ وقالوا: هي في ولده بالوصاية.
وفرقة هم الإمامية -ويسميهم أهل العراق الروافض والغلاة- فإنهم قالوا: لا تصح الإمامة إلا بالنص، ولا تُقبل الأخبار إلا من إمام ممن نصوا عليه، ولا يجوز عندهم الاجتهاد إلا له، ووصفوه بصفة الله، بأن قالوا: هو يعلم الغيب. ورووا عن بعض أئمتهم أنه قال: كلامي كلام أبي، وكلام أبي كلام جدي، وكلام جدي كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يمتنع الرجل منهم -إذا سمع أحد أئمتهم يتكلّم بكلامٍ- أن يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولهذا امتنعت العلماء من قبول الأخبار منهم.
فمن أئمتهم الذين أجمعوا عليهم أنهم يقولون: أوصى الحسين بن علي عليهما السلام إلى علي بن الحسين، وأوصى علي بن الحسين إلى محمد بن علي، وأوصى محمد بن علي إلى جعفر بن محمد.(1/536)


واختلفوا في جعفر، وفيمن بعده، فقالت الناروسية: إن جعفر بن محمد حيٌّ لم يمت، وهو المهدي، ونُسبوا إلى رئيس لهم يقال له: ناروس، من أهل البصرة.
وقالت الفطحية: بإمامة عبد الله بن جعفر، وكان أفطح الرأس، فلذلك سُموا الفطحية.
وقالت الشمطية: بإمامة محمد بن جعفر، ونُسبوا إلى يحيى [بن] الأشمط وكان رئيساً لهم، وقيل: إن الفطحية نُسبوا إلى رئيس لهم، يقال له عبد الله بن فُطيح، وقد انقضت هذه الفرق.
وفرقة منهم وهم الإسماعيلية، وهم المباركية والخطابية.
فقالت المباركية بإمامة محمد بن إسماعيل.
وقالت الخطابية بإلاهية جعفر -تعالى الله علوا كبيراً- ونُسبوا إلى رئيس لهم يقال له: أبو الخطاب لعنه الله.
ومنهم الواقفة الممطورة، وهم الذين قالوا بإمامة موسى بن جعفر، وأنه حي لم يمت.
ومنهم القطعية، وهم فرقة يقولون بإمامة علي بن موسى الرضى الذي س‍مّه يحيى بن خالد في حبس هارون ببغداد في عنبٍ ورُطَبٍ فمات.
ومنهم فرقة يقال لهم الحماريّة، قالوا بإمامة الحسن بن جعفر. فاختلفوا فيه، فمنهم من قال مات. ولم يكن إماماً، وكانوا مخطئين في إمامته، وذلك أنهم (كانوا) قالوا: هو المهدي، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً [كما ملئت جوراً]، ورووا في ذلك من أخبارهم الكاذبة، فلما مات وصحّ موته بانت فضيحتهم، ولهذا سُميت هذه الفرقة الحماريّة.
وقال قوم منهم: قد مات، ولكنه يحيا وهو المهدي، وقال قوم: ليس له ولدٌ. وقال قوم منهم: له ولدٌ وُلِدَ بعده، وهو محمد بن الحسن الذي هو بزعمهم أحد أئمتهم.(1/537)


وانتسبت الباطنية إلى الإسماعيلية، وهم فرقة أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام، وقالوا: لكل ظاهرٍ باطنٌ، وجحدوا الرب والبعث والحساب والجنّة والنار، واستحلوا المحرمات من الأمهات والبنات والأخوات، وغير ذلك. وقالوا: الحيوان مثل النبات يأتي شيءٌ ويذهب شيءٌ، والأرواح تنتقل في الحيوان، وتنسخ بزعمهم روح الإنسان إلى إنسان أو إلى كلبٍ أو خنزيرٍ أو حمارٍ، وجحدوا الملائكة والأنبياء "، وقالوا: كان قبل آدم آدم إلى ما لا نهاية له، ونفوا الجنّ، ولبّسوا على الناس، واتبعوا متشابه الكتاب، ففتنوا به أهل الحيرة والإرتياب، وقالوا في رسالة لهم يُسمونها (البلاغ الأكبر): فأمر صاحبها فيها أن لا يطلع عليها أحدٌ إلا بعد الأيمان المغلّظة، والمواثيق المشدّدة، على كتمان السر، فإذا فعل ذلك لبّس عليه، ولم يزل يُخلّصه من شبهةٍ إلى شبهة إلى حدٍّ، قال: فإذا بلغ هذا الحد فاحلل له عقاله وأبح له ما ناله.
والرد على هؤلاء وعلى أهل الكفر واحدٌ. وقد قدمنا الرد عليهم فيما تقدم.
وأيضاً فإنهم لا يستقيمون للمناظرة بل يجحدون هذا القول، ويُقرون ببطلانه، وبأنه كفرٌ وجحدٌ. وكفى بذلك عليهم حجّة أن يبطنوا شيئاً ثم يجحدوه ويظهروا غيره عليه.(1/538)


وأما قولهم في كتمان الدين وإبطال المذهب؛ فإنه لا يُبطن ويُسرّ إلا ما كان معيباً قبيحاً، وفي الشاهد أن الإنسان إذا فعل فعالاً حسنا أحب أن يظهر فعاله، ويشيع، ويُذكر به، وإذا فعل فعالاً قبيحاً كتمه، وودّ أن أحداً لا يعلم به. وأيضاً فإن وجه الإنسان أفضل من جسده وأحسنه فإنه يظهر، ولما كانت عورته أقبح جسده فأمر بسترها وتغطيتها، وقد أمر الله تعالى بإظهار دينه وتبيينه للناس، وذمّ قوماً كتموا ما أنزل الله، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة:159،160].
ومن الرد على الإمامية في قولهم بالنص، وأن الأخبار لا تُقبل إلا من إمامٍ منصوصٍ عليه فإنهم قطعوا عنهم أسباب الخير بهذين القولين، وتكلّفوا بسببهما الكذب.
ومما يبين كذبهم في القولين: أنهم يقولون بإمامة إمامٍ في حياته، ويزعمون أنه المهدي، وأنه لا يموت حتى يظهر أمره ثم يموت، فيتبين كذبهم، فيزيدون كذبةً أخرى أكبر من الأولى، أن يُبرِّءوا نفوسهم من الكذب، فيقولون: هو يحيا بعد الموت، ويملأ الأرض عدلاً، فهم لا يسلمون من الكذب؛ إن كان حيا قالوا: هو المهدي وليس يموت، وإن مات ولم يعاينوا موته جحدوا موته، وقالوا: هو غائبٌ لم يمت، فإن صح عندهم موته قالوا: هو يحيا ويُبعث في الدنيا بعد ما مات.(1/539)


وأما قولهم: إن إمامهم يعلمُ الغيب. فهذا كذبٌ منهم وكفرٌ وتكذيبٌ بكتاب الله، قال الله تعالى: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}[النمل:65]، وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِي‍رٌ}[لقمان:34] فبطل قولهم.
وأما قولهم: بأن إمامهم قال: (حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) وقولهم هو عامّ في جميع الكلام. وهذا بطلانه ظاهرٌ من أمور:
منها: أنهم يعلمون أن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم لم ينطق بهذا الحديث الذي يقول فيه: (حديثي حديث أبي) ويعلمون أن إمامهم هذا لو قال لخادمه: إسقني ماءً أو اعطني ثوبي، أو خُذ هذا الثوب، أو يأمر، أو ينهى، أو يستخبر، أن ذلك الحديث لم ينطق به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وكذلك لو دعا زوجته إلى فراشه، فهذا ما لا يتكلم به عاقل. فأما الخبر الخاص الذي يرويه عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنه ما كان منه موافقاً لكتاب الله صُدِّقَ، وما كان مخالفاً لكتاب الله لم يُصدَّق.(1/540)

108 / 115
ع
En
A+
A-