وأما قولهم: إنه أفضل من الملائكة والأنبياء " فهذا ضربٌ من الجنون، وغلطٌ من ادّعاء الرّبوبية، وذلك أنه قد أتى في كتاب الله أنّ الملائكة مُوكّلونَ بأمر الله، قال عزّ من قائلٍ: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ، فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ، فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا}[النازعات:3-5]، وقال: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكّلَ بِكُمْ }[السجدة:11]، وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }[ق:18]، فإن كان ممن يموت فملَك الموت مُوكّلٌ عليه، والوكيل أفضل من الموكَّل عليه، وإن كان لا يذوق الموت فهو ربٌّ ـ تعالى الله عما يقول الجاهلون علوا كبيراً، وأيضاً فإن الملائكة ـ صلوات الله عليهم ـ هم خزنة الجنّة وخزنة النار، والخازنُ يكون أفضل ممن يَخْزُنُ عليه، فبطل قولهم: هو فوق الملكوتية.(1/531)
وأما قولهم: هو أفضل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعلموا ما استحق الإمامة إلا بفضل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك عِلمُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والقرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولو كان أفضل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لَجُعِلَ في مكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولأنزل عليه الكتاب والمعجزات، وهذا القول خروجٌ عن الحدود المضروبة، والله تعالى يقول: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}[النجم:32]، وقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ }[الأحزاب:6]، وقال تعالى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[آل عمران:188].(1/532)
وأما قولهم: (هو أفضل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه يملك الأرض كلها، ولم يملك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل الأرض)، فليس مِلكُ الأرض يُوجب فضلاً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ملك آل داود ما لا يملكه أحدٌ من بعدهم، ولا ملكه أحدٌ من قبلُ، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ، قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ، فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ، وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ، هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أو أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[ص:34-39]، فصحّ أنه لا يُعطى أحدٌ بعده مُلكاً في الدنيا واقتداراً مثل ما أُعطي سليمان عليه السَّلام. ومع ذلك أن سليمان لم يدّع أنه أفضل الأنبياء لما أعطيَ من ملك الدنيا ما لم يُعطوا مع ملك الآخرة. وقد عُرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مُلك الدُّنيا، فكره ذلك وقال: ((الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له، ويجمعها من لا عقل له))، فلو كان الحسين بن القاسم قد ملك الدنيا بأسرها ثم افتخر بملكها وادّعى ما ادّعى لكان ذلك قبيحاً منه، فكيف ولم يكن من ذلك شيءٌ؟(1/533)
وأيضاً فإن المؤمن لا يكون مؤمناً حقا حتى يكون مُستعظماً لسيئاته، مُستصغراً لحسناته، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ، إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ}[المعارج:27،28]، وبأقل قليلٍ مما تكلم به تسقط إمامته، اللهم إلا أن يكون الكلام مكذوباً عليه.
وممن قام من أهل البيت ": أبو الفتح الناصر بن الحسين الحسني أتى من الديلم إلى اليمن، ودعا إلى طاعة الله، وأجابه قومٌ من أهل اليمن، وجاهد في سبيل الله، واستشهد في نواحي مذحج.
وممن قام ودعا أيضاً يحيى بن أحمد بن المؤيد بالله قدّس الله روحه، دعا في أرض الدّيلم وجيلان، وحارب الباطنية لعنهم الله بحضرموت.
فهؤلاء الذين سمّينا من أهل البيت" الذين اشتهر عندنا أمرهم، وثبت عندنا قيامهم، وظهرت دعوتهم. وفي خلال هؤلاء الذين سمّينا فضلاء من أهل البيت" لم يمنعهم من القيام إلا عدم الأعوان، فإنهم بلغوا في العلم والزّهد، والعبادة والتّقى ما لا مزيد عليه؛ مثل علي بن الحسين عليه السَّلام، ومثل ولده محمد بن علي الباقر، وإنما سُمّي الباقرُ لأنه بقر العلم. وروي أن جابر بن عبد الله عُمِّر حتى لحقه فأقرأه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أقرئك عنه السلام.
ومثل عبد الله بن الحسن بن الحسن فإنه رُوي أنه مكث يُصلي صلاة الفجر بوضوء المغرب ستين سنةً.(1/534)
ومثل أحمد بن عيسى بن زيد "، ومثل جعفر بن محمد الصادق عليه السَّلام، ومثل موسى بن عبد الله، وعلي بن موسى، ومثل أولاد القاسم بن إبراهيم: محمد والحسين والحسن أولاد القاسم"، ومثل علي بن العباس، ومثل أبي العباس أحمد بن إبراهيم.
فهؤلاء وأمثالهم لم يمنعهم من القيام إلا عدم الأنصار وخوف الأشرار، واستظهار أهل الدولتين الأموية والعباسية.(1/535)