ثم قام بعده ولده الحسين بن القاسم، فدعا إلى طاعة الله وإلى الجهاد في سبيل الله، ثم بدا منه بعد ذلك أنه هو المهدي، قال: الذي تُملأ به الأرض عدلاً كما مُلئت جَوْراً. وقيل: إنه قال: هو أفضل من رسول الله، وكلامه أبهر من كلام الله، وكان قد طلّق زوجة له وانقضت عِدّتها، وتزوّجها رجلٌ، فلما علم بنكاحه لها أخرجها منه بغير طلاقٍ، وتشبّه برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واحتجّ بقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رسول اللَّهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا}[الأحزاب:53].(1/526)
وقال في كتاب كتبه إلى محسّن بن محمد بن المختار بن الناصر بن يحيى الهادي عليه السَّلام، وكان من فُضلاء أهل البيت وعلمائهم، وقد سأله عن مسائل، وأنكر عليه كلامه الذي تكلّم به، فردّ عليه كلاماً فظيعاً، وسبّه سباً شنيعاً، ثم قال في كلامه: (وما عسى أن تكون مسائلك في علمنا، وأدواتك في بحرنا، وما فضل علمنا على جميع العلوم إلا كفضل الشمس على جميع النجوم، وكل معجزةٍ من الله الواحد الحي القيّوم، وما الفرق بيني وبين الأئمة الأخيار إلا كفرق ما بين الليل والنهار، وشتان -يا جاهل- بين النجوم والشمس، وهل يوجد لنا نظيرٌ من الجن والإنس؟ وقد علم الله مقتي لَلْفُجار، ولكن يجوز ويحسن عند الاضطرار. ثم أغرق في كلامه وأفرط وقال: (ما يكون علم [جميع] الأنبياء -وعدّ من علي بن أبي طالب عليه السَّلام إلى أبيه القاسم بن علي عليه السَّلام- إلا كعشر العشير من علمه، ثم قال: فأحضروا التوراة والإنجيل والفرقان، وكل علمٍ أوجد الرحمن ونزَّله فإنكم تجدون قولي أقوى من ذلك حُججاً، وأبين بياناً، وأوضح نوراً، وأعظم برهاناً، فما عسى أن تكون مسائلك). وذكر كثيراً من جنس هذا.(1/527)
فردّ عليه محسّن بن محمد جواب عاقلٍ عالمٍ، يذُمُّ فيه السب، والكلام المُعوِر، وأورد [عليه] من كلام الله حُججاً مثل قول الله: {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ }[النساء:148]، وكقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا }[الفرقان:63]، وكقوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران:134]، ومثل قوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا }[البقرة:109]، وكقوله: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التغابن:14]، وأورد أيضاً أبياتاً من أشعار العرب، منها قول الشاعر:
ويُشْتَمُوا فترى الألوان مُشرقةً
لا عفو ذل ولكن عفو أحلام
واحتج عليه في ادّعائه أن كلامه أبلغ من كلام الله، بآياتٍ من كتاب الله منها: أن الله تعالى قد تحدّى الجنّ والإنس بأن يأتوا بسورةٍ من مثله، فما فعلوا ولا قدروا وذلك قول الله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:88]، وبقوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}[الحشر:21] وأمثال ذلك.
وأورد في ذمِّ الإفتخار قوله تعالى: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}[النجم:32]، وبما أشبه ذلك.(1/528)
ونحن ننفي عنه هذا الكلام، ونقول: هو مكذوبٌ عليه، ولا يصح [هذا] عنه، وهذا ادعاء أمرٍ باطلٍ، وفساده ظاهرٌ، وإنما أردنا أن نُبيّن القول فيه، لأن قوماً من بني إخوته وشيعته قد صاروا يرون قوله هذا ديناً، وقد صاروا فرقةً يُناظرون عليه، ويَحيَون ويموتون عليه، وينسبون من لم يَقل به إلى الكفر، ويقولون: لم يُقتل ولم يمت ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جَوراً، ويقولون: إنه يعلم الغيب، وذلك لجهلهم، وقلّة معرفتهم لكتاب الله وسُنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن جهلهم أنهم قالوا: هو يحكم بحكم آل داود، فإذا سألهم سائلٌ عن حكم آل داود كيف كان؟ قالوا: يعرف المُحقّ من المبطل من الخصمين قبل أن يتكلما. ولم يعلموا أن داود عليه السَّلام سُئل عن نفسه فلم يعلم وذلك قول الله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ، إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ، إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ، قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ...} إلى قوله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}[ص:21-24].
واعلم أن قولهم هذا غلطٌ بيِّنٌ من وجوه:(1/529)
منها أن الله تعالى يقول: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}[النمل:65]، وقولهم: (إنه يعلم الغيب)، تكذيبٌ لكتاب الله. وقال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[لقمان:34]، وقوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ}[البقرة:255]. وقولهم: (إن كلامه أبلغ من كلام الله وأقوى حُججاً)، تكذيبٌ أيضاً لكتاب الله؛ لأن الله تعالى يقول: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:88]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أو قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}[الأنعام:93].(1/530)