وكان من أمرِ زيد بن علي عليهما السلام: أنه لما عَلِمَ أن الحُجّة قد وجبت عليه لله دعا إلى طاعة الله، وإلى الجهاد في سبيل الله، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان في وقت هشام بن عبد الملك، فأجابه قومٌ، والْتأَمُوا إليه بعد مُدةٍ، ثم إنه خرج في قتال هشام، وقد خرج في لقائه يوسف بن عمرو الثقفي فإنه بلغنا عن زيد بن علي عليهما السلام أنه كَتَّبَ كتائبه، فلما خفقت راياته رفع يديه إلى السماء ثم قال: (الحمد لله الذي أكمل لي ديني، والله ما يسرني أني لقيت محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ولم آمر (في) أمته بالمعروف، ولم أنههم عن المنكر، والله ما أبالي إذا أقمت كتاب الله عزّ وجلّ، وسُنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أُجِّجَتْ لي نارٌ ثم قُذِفتُ فيها ثم صرتُ فيما بعد ذلك إلى رحمة الله، والله لا ينصرني أحدٌ إلا كان في الرفيق الأعلى مع محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن بنوه يا معاشر الفقهاء ويا أهل الحجا أنا حجة الله عليكم، ثم هذه يَدي مع أيديكم، على أن نُقيم حدود الله، ونعمل بكتاب الله، ونقسم بينكم بالسّويّة، فاسألوني عن مَعَالمِ دينكم فإن لم أنبئكم عما سألتم عنه فولوا من شئتم ممن علمتم أنه أعلم منّي، والله لقد علمتُ علم أبي علي بن الحسين، وعلم جدّي الحسين بن علي، وعلم علي بن أبي طالب وصيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعيبة عِلمه، وإني لأعلم أهل بيتي، والله ما كَذَبتُ كذبةً مُنْذُ عرفتُ يميني من شمالي، ولا انتهكتُ مُحرّماً مُنذُ عرفتُ أن الله يُؤاخذني به، هلمّوا فاسألوني) ثم سار حتى انتهى إلى(1/516)


الكُناسة فحمل على جماعةٍ من أهل الشام كانوا بها، ثم سار إلى الجبّانة، ويوسف بن عمرو مع أصحابه على التَّلِّ فشدّ بالجمع على زيد وأصحابه.
قال راوي الحديث وهو أبو معمر: فرأيته عليه السَّلام يشدُّ عليهم كأنه الليثُ حتى قتلنا منهم أكثر من ألفي رجلٍ، ما بين الحيرة والكوفة، وتفرّقنا فريقين، وكنا من أهل الكوفة أشدّ خوفاً.
قال أبو معمر: فلما كان يوم الخميس حاصت منّا حيصةٌ (منهم)، واتبعتهم فرساننا فقتلنا أكثر من مائتي رجلٍ، فلما جنَّ الليل -ليلة الجمعة -كثُر فينا الجراح، واستبان فينا الفشلُ، وجعل زيدٌ يدعو ويقول: (اللهم إن هؤلاء يقاتلون عدوك، وعدو رسولك عن دينك الذي ارتضيته لعبادك فأجزهم أفضل ما جزيت أحداً من عبادك المؤمنين)، ثم قال: احيُوا هذه الليلة بقراءة القرآن، والدعاء والتهجّد، والتضرّع إلى الله، وأنا أعلم والله ما أمسى على وجه الأرض عصابةٌ أنصح لله تعالى ولرسوله عليه السَّلام وللإسلام منكم. فكان غاية أمره أنه قتله يوسف بن عمرو -لعنه الله- وصلبه في الكُوفة، فأقام على الخشبة سنتين ثم أحرقه، ونسف رماده في البحر، لعن الله قاتله وباغضه وخاذله.
ثم قام من بعده ولده يحيى بن زيد عليهما السلام في ولاية يزيد بن عبد الملك، فخرج له عسكره فقُتل هو وشيعته بخراسان بموضعٍ يقال له: (جوزجان). ثم انتقم الله من بني أميّة بعده ودمرهم، فقُطع دابرهم -لعنهم الله- وكانت ولايتهم ألف شهرٍ.
وقيل: إن بني أمية -لعنهم الله- هم الشجرة الملعونة في القرآن.(1/517)


ثم آل الأمر بعدهم إلى بني العباس، ثم قام محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن " وهو النفس الزكيّة فدعا الناس إلى طاعة الله، فخرَّج إليه أبو الدوانيق عسكره فقُتل عليه السَّلام وجماعةٌ من أهل بيته وأصحابه رحمهم الله، وسال دمه إلى أحجار الزيت في جانبٍ من المدينة كما جاء في الخبر، فإنه رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه خرج ذات يومٍ فوقف في موضع من المدينة ثم قال لأصحابه: ((ألا إنه سيقتل في هذا الموضع رجلٌ من ولدي إسمه كاسمي، واسم أبيه كاسم أبي، حتى يسيل دمه إلى أحجار الزّيت على قاتله ثلث عذاب أهل النار)).
وقد روي عن الهادي إلى الحق عليه السَّلام أنه قال: بين محمد بن عبد الله النفس الزكية، وبين المهدي عليه السَّلام خمسة عشر إماماً، والمهدي آخر الأئمة".
ثم قام من بعده أخوه إبراهيم بن عبد الله" فدعا الناس إلى طاعة الله، بناحية البصرة، فخرَّج إليه أبو الدوانيق عسكره، فحاربه حتى قُتِلَ عليه السَّلام بموضعٍ يُقال له: بَاخَمْرَا.
ثم قام الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن" فدعا إلى طاعة الله، فبايعه قومٌ ثم خرج يُريد الحجّ هو ومن معه، فلما صار بفخٍّ في جانب مكة خرج إليه أمير مكّة بعسكره ومن أجابه من الحاج، فحاربوه حتى قتلوه وجماعةً من أهل بيته وأصحابه رحمهم الله، والذي جهد في قتله موسى بن محمد بن أبي الدوانيق لعنه الله.(1/518)


ثم قام من بعده يحيى بن عبد الله -أخو النفس الزكيّة"- فبايعه قومٌ وخرج إلى ناحية طبرستان، فلم يزل هارون بن محمد -لعنه الله- يتعمّل فيه، حتى وقع في يده، وكان قد عقد له العقود، وحَمَلَ المواثيق المغلّظة، فلم ينظر في ذلك وقتله.
ثم قام محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب" بسواد الكوفة، فدعا إلى طاعة الله -وكان ذلك في عصر المأمون- فأدركه الموتُ بعد أربعة أشهرٍ من مقامه فمات عليه السَّلام.
وكان المأمون مُحباً لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يُناظر فقهاء العامّة على فضل أمير المؤمنين عليه السَّلام ويُفضّله على أبي بكر وعمر وعثمان، ويقول: إنه أولى منهم بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.(1/519)


ومن حُبّه لآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رُوي عنه: أنه لما مات محمد بن جعفر الصادق عليهما السلام ركب ليشهده -وكان موته عنده- فلقيهم وقد خرجوا به، فلما نظر السرير، نزل ودخل تحت العمود حتّى وُضع، وتقدّم وصلى عليه، ولم يزل حتى بُني عليه، ثم قام على القبر، فقال له عبيد الله بن الحسين ودعا به: يا أمير المؤمنين إنك [قد] تعبتَ فلو ركبتَ، قال المأمون: هذه رحمٌ مَجْفُوّة مُنذ مائتي سنةٍ. قال إسماعيل بن محمد بن جعفر: قلت لأخي -وهو إلى جنبي: لو كلّمناه في دَيْنه فلا نجده في وقتٍ أقرب من وقتنا هذا، فابتدأ هو فقال: كم ترك أبو جعفر من الدين؟ قلنا: خمسة وعشرين ألف دينار، قال: قد قضى الله عنه، وترجّل له إسماعيل بن محمد بن جعفر، قال الشيخ بن الشيخ فأمر له بخمسةٍ وعشرين ألفاً بدين أبيه، فصكّ له بها إلى الأهواز، يُعطى بها الآرز، فغلا الآرز فباعه بخمسين ألف دينارٍ.
وروي أنه كان أمر إلى القاسم بن إبراهيم عليه السَّلام بمالٍ كثيرٍ فردّه ولم يقبله اختياراً منه للفقر على الغنى، وزُهداً منه عليه السَّلام في الدنيا وفي أهلها. فلم يفعل فِعَالَ المأمون بن هارون من بني العباس سُواهُ.
ورُوي أنه رد فدكاً والعوالي على بني فاطمة، ومثلُ ذلك فعل عمر بن عبد العزيز من بني أميّة، فإنه رُوي أنه ردّ فدكاً على محمد بن علي الباقر عليهما السلام، وفي عمر بن عبد العزيز يقول كثير عزّة:
وُلِّيت فلم تَشتم عليًّا ولم تَخَفْ

بريًّا ولم تتبع سجيّة مُجرمِ

وقُلتَ فصدَّقتَ الذي قلت بالذي

فعلتَ فأضحى راضياً كُلُّ مُسلمِ(1/520)

104 / 115
ع
En
A+
A-