وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعِترتي أهل بيتي)). وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أحبوا الله لِمَا يغذوكم به من نعمته ، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي)) فصحّ أن لأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم مزيّةً ليست لغيرهم؛ ولأنهم مجمعٌ عليهم، وغيرهم مختلفٌ فيه.
واختلفت الأمة في الإمامة وفي عقدها، فعند الزيدية أن الإمامة تحصل للإمام وتجب عند من تعرف منه القرابة بأن يكون من ولد الحسن والحسين، ويكون عالماً بما يحتاج إليه من أصول الدين وفروعه، ويكون جيّد التّمييز، عارفاً لمُحكم الكتاب ولمتشابهه، عارفاً بجملةٍ من الأخبار عن النبيء المختار صلى الله عليه وآله وسلم، ويكون عارفاً بجملةٍ من الوفاق والخلاف، ويكون ورعاً عفيفاً، طيّب المولد والمنشأ، ويكون مستقيم اللّسان، معروفاً بالكرم والإحسان، غير مَهِينٍ ولا جبانٍ، فإذا تم فيه ما ذكرنا، ودعا الناس إلى طاعة الله وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجبت بيعتهُ ولزمت طاعته.(1/511)


والإمامة عند جميع الشيعة الزيدية والإمامية حكمٌ من الله تعالى وأمرٌ؛ وهي نعمةٌ وبليّةٌ، ومن العبد الائتمار، وهو الشّكرُ على النعمة، والصبر على البليّة، وكذلك النّبوءة، قال الله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة:124]، فصحّ أن النبوءة والإمامة، أمرٌ من الله تعالى، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ }[الجاثية:16]، وقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}[السجدة:24]، وقال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}[النساء:54]، وقال تعالى -حاكياً عن موسى عليه السَّلام: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}[المائدة:20]، فصحّ أن النبوءة والإمامة (أمرٌ) من الله تعالى نعمةٌ وبليّةٌ.
وذهبت المطرفية إلى أن النبوءة والإمامة فعل النبيء والإمام. وقد قدّمنا الاحتجاج عليهم، وعلى من قال بقولهم في الإمامة بما فيه كفاية.(1/512)


وقد نص القاسم بن إبراهيم والهادي إلى الحق عليهما السلام على أن الإمامة من فعل الله تعالى، فقال القاسم عليه السَّلام في كتاب (تثبيت الإمامة) بعد (أن) ذكر الأنبياء" قال: ثم أبانَ الإمامةَ من بعدهم، ودلّ الأمة فيهم على رشدهم، بدليلين مُبيّنين، وعَلَمين مُضيئين، لا يحتملان لبس تغليطٍ، ولا زيغ شُبهة تخليطٍ، لا يطيق خلقهما متقنٌ، ولا يُحس تخلّقهما محسنٌ، وليُّ ذلك منهما وفيهما، ومُظهر دلالة صُنعه عليهما الله رب العالمين، وخالقُ جميع المحدثين، وهما: ما لا يدفعه عن الله دافع، ولا ينتحل صنعه مع الله صانعٌ؛ من القرابة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما جعل من احتمال كمال الحكمة في من الإمامة فيه. وحدُّ الحكمة وحقيقة تأويلها: دَرَكُ حقائق الأحكام كلِّها، فاسمع لقول الله تعالى فيما ذكرنا من مكان قرابة المرسلين، وما جعل الله من وراثة النبوءة من أبناء النبيئين، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِي‍رٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}[الحديد:26]. وقال الهادي إلى الحق عليه السَّلام في كتاب الأحكام: (تثبت الإمامة للإمام، وتجبُ له على جميع الأنام بتثبيت الله لها فيه، وجعله إياها له. وذلك فإنما يكون من الله إليه إذا كانت الشروط المتقدمة التي ذكرنا فيه، فمن كان من أولئك كذلك، فقد حكم الله سبحانه له بذلك، رضِيَ بذلك الخلقُ أم سخطوا) إلى آخر الباب. فإنه جعل لذلك باباً مُفرداً. وقد غلطت المطرفية في قولها، وخالفوا أهل البيت"(1/513)


وشيعتهم، ووافقوا مخالفي أهل البيت.
وقالت المعتزلة والمجبرة والخوارج: تثبت الإمامة للإمام بالشورى. واختلفوا في كمية من تثبُتُ به. فقال قوم: تثبت بالإجماع. وقال قوم: تثبت بالخبر المتواتر. وقال قوم: تثبت بالخبر الذي يُضطر إلى قبوله.
وقال أبو الهذيل: تثبت بعشرين رجلاً، واستدلّ بقول الله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ }[الأنفال:65].
وقال قوم: تثبت باثنين كما أنه يُقتل القاتلُ بشهادتهما. وقال قوم: تثبتُ بواحدٍ.
وقد قدمنا الاحتجاج عليهم أنها لا تثبت إلا بحكم الله. ولم يُخالفوا في النبوءة.
وذهبت الإمامية إلى أن الإمامة لا تجب إلا بالنص، وسنورد قولهم والاحتجاج عليهم -إن شاء الله- في موضعه.(1/514)


فصل في الكلام في إمامة زيد بن علي عليهما السلام ومن قام بعده من الأئمة عليهم السلام
فإنه لما قُتل الحسين عليه السَّلام وأهل بيته، وجرى عليهم ما جرى في كربلاء، ضعفوا لذلك، ولم يسلم من القتل إلا أولادٌ صغارٌ، منهم علي بن الحسين عليه السَّلام، ومنهم زيد بن الحسن، والحسن بن الحسن، وأقاموا مُدّةً طويلةً لم يقم منهم أحدٌ، وبلغ علي بن الحسين السّعيَ، وانتهى في الدِّين والعلم والورع والزّهد واليقين، وسُمّيَ عليه السَّلام زين العابدين. وقد روي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال للحسين بن علي عليهما السلام: ((يُولد لك بعدي غُلامٌ يُسمى سيد العابدين)).
وروي في الخبر: ((يُنادَى يوم القيامة: لِيَقُم سيد العابدين ، فيقوم علي بن الحسين عليهما السلام)).(1/515)

103 / 115
ع
En
A+
A-