وقوله: {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} يُريد الإمام الذي دعا الناس إلى طاعة ربه، وباين الظالمين، وعادى الفاسقين، فذلك هو السّابق، ويُبين ذلك ما يتلو هذه الآية من قوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}[فاطر:33]، فوعد المحسنين السابقين، والمقتصدين، وأوعد الظالمين فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا...} إلى قوله: {فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِي‍رٍ}[فاطر:36،37]، فبيّن أنهم الذين عنى بقوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} وذِكْرُ الكفر هاهنا هو يجمع كفر الجحدان وكفر النعمة، ثم قال بعد ذلك: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتًا وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَارًا}[فاطر:39] فبيّن ما قلنا.(1/506)


وذهبت المطرفية: إلى أن الظالم هو الذي ظلم نفسه درجة السّبق، ولو كان مطيعاً لله مُتعلّماً تقياً، وهذا التفسير خلاف الكتاب والسنة. ولو كان ذلك يُسمّى ظالماً، لكان يستحق النار؛ لأن الله تعالى قد أوعد الظالمين بالنار فقال تعالى: {فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِي‍رٍ }[فاطر:37]، وقال تعالى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الشورى:22]، وقال: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }[البقرة:57].
وعن الحسكاني بإسناده عن زيد بن علي عليهما السلام في قول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ...}الآية[فاطر:32] قال: (الظالم: المختلط منّا بالناس، والمقتصد: الفائز، والسابق: الشَّاهر سيفه يدعو إلى سبيل ربه). وعنه أيضاً بإسناده عن علي عليه السَّلام قال: سألت النبيء صلى الله عليه وآله وسلم عن تفسير هذه الآية فقال: ((هم ذريتك وولدك ، إذا كان يوم القيامة خرجوا من قبورهم على ثلاثة أصناف: الظالم لنفسه يعني الميت بغير توبةٍ، ومنهم مقتصد استوت حسناته وسيئاته من ذريتك، ومنهم سابق بالخيرات: من زادت حسناته على سيئاته من ذريتك))، فسقط قولهم وصحّ قولنا. فهذا ما جاء في الكتاب من ذِكْرِ أهل البيت ".(1/507)


ومن سُنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما نورده، فإنه رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((تركت فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعِترتي أهل بيتي فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوضَ)).
ورُوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إتقوا الله في عِتْرَتِي )) (قال ذلك ثلاث مرات). وعترته هم أهل بيته، وعِترةُ الرجل هم ذريته وأهل بيته، قال الشاعر:
كأن أباهم دَارِماً وكأنّهم

لشقشقةٍ من نسل قيس بن عاصمِ

إذا عِترة القوم الشريف تفاخرت

لصلب أبٍ من حيّ سعد ودَارمِ

وجدتَ لنا في خندفٍ خير بيتها

إذا لم تجد نِداً لنا في الأراقمِ

فصح أن العترة هم أهل البيت".
ورُوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوحٍ من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى)).
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ما بال أقوام من أمتي إذا ذكرَ عندهم آل إبراهيم استبشرت قلوبهم وتهللت وجوههم، وإذا ذُكِرَ عندهم أهل بيتي اشمأزّت قلوبهم، وكلحت وجوهُهُم، والذي بعثني بالحق نبيئاً لو أن الرجل منهم لقي الله بعمل سبعين نبيئاً ثم لم يلقه بولاية أولي الأمر من أهل بيتي ما قَبِلَ الله منه صرفاً ولا عدلاً)).
وأيضاً فإن أهل البيت " مجمعون على أن الإمامة محصورةٌ في ولد الحسن والحسين، وأنها محظورة على غيرهم، وإجماعهم حُجّةٌ.(1/508)


وذهبت بعض المعتزلة إلى أن الإمامة في جميع الناس جائزةٌ. وكذلك قالت الخوارج، إلا النجدات منهم، فإنهم قالوا: لسنا نحتاج إلى إمامٍ، إنما علينا أن نُقيم كتاب الله فيما بيننا.
وقد قدمنا الرد على المعتزلة والخوارج في قولهم: الإمامة في كل الناس، بما قدّمنا من الكتاب والسّنة والعقل.
والرد على النّجدات من كتاب الله، قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران:104]، ولا يصح الدعاء إلى الخير، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا للإمام، وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[آل عمران:142]، ولا يتم لهم الجهادُ إلا مع الإمام. وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من مات لا يعرف إمام عصره مات ميتةً جاهلية)) وتفسير ذلك: أن تعرفه فإن كان عادلاً اتّبعته، وإن كان جائراً اجتنبته.
وروي عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الجنة لا تحل لعاصٍ ، ومن لقي الله ناكثاً بيعته لقي الله وهو أجذم، ومن خرج من الجماعة قيد شِبرٍ مُتعمّداً فقد خلع رِبْقَةَ الدّين من عنقه، ومن مات ليس إمام جماعةٍ -ولا لإمام جماعةٍ في عنقه طاعة- أماته الله ميتةً جاهليةً)).(1/509)


والعقل يحكم أن الأمة لا تستغني عن الإمام، وبسبب فُقده وعدمه ومعصية الناس له فسد الدين وفسد الناس، والأمة مجمعةٌ على أن قيام الإمام واجبٌ، وأنه لا غنى للناس عنه. وأيضاً فإن أهل البيت" مجمعون على أن الإمامة محصورةٌ في ولد الحسن والحسين، محظورةٌ على غيرهم، وإجماعهم حُجّة.
والدليل على أن إجماعهم حجة قول الله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى }[الشورى:23]، فلما أوجب الله مودّتهم وجب تركُ مخالفتهم، لأن مخالفتهم خلافُ المودّة، والعقلُ يحكم بذلك، وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ...}الآية[الحج:78]، وهو تعالى لا يختار شهداء إلا العدول الذين لا يُجمعون على خطأٍ، وليس لأحدٍ أن يقول: (إن) هذا عامٌّ في ولد إبراهيم؛ لأن من سوى أهل البيت " خرج من حكم هذه الآية بالإجماع، فبقيت الآية متناولة لهم.
وقالت المرجئة والحشوية، وسائر المجبرة: الإمامة في قريش من صَلُح منهم للإمامة. وقد قدمنا الاحتجاج عليهم وعلى المعتزلة والخوارج ما فيه كفاية، وقد قال الله تعالى: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ، رَسُولاً}[الطلاق:10،11] فسمّى رسوله ذكراً، ثم قال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }[النحل:43].(1/510)

102 / 115
ع
En
A+
A-